فى بحث الدكتوراه الذى قدمته عام 2009 كتبت تلك السطور: «وتؤدى الممارسة المستقرة والآمنة للمعاملات بين الأفراد، إلى إتمام التعاملات عند مستوى معلوماتى محض، بعيدا عن أى أرصدة مادية، وكذلك تتكون الأسعار فى الأسواق بعيدا عن عناصر الإنتاج ــ المادية فى معظمها ــ وعوامل الطلب المرتبطة بإشباع مادى أيضا. على أن أى اهتزاز فى الثقة أو الائتمان المتبادل فى المعاملات، من شأنه إعادة المتعاملين إلى المستوى المادى الأدنى الذى يضمنون عنده حصولهم المباشر على الإشباع المادى لحاجاتهم».
توقعت حينها تحول النقود المادية بشكل تدريجى إلى صورة معلوماتية مجردة، تخف خلالها سيادة الدولة والبنوك المركزية وتصبح المعاملات ــ لا الأرصدة فى البنوك ــ هى الغطاء الوحيد لتلك النقود المعلوماتية. لم أكن أرجم بالغيب، فقط أبصرت بعين المحلل التطور التاريخى للنقود، فمنذ أن شعر الإنسان بحاجته إلى الآخرين من أجل إشباع حاجاته المتعددة، كانت المعاملات تتم بوسائط مختلفة مرت عبر العديد من المراحل، بدأت بالمقايضة وانتهت بسيادة النقود الحديثة.
عرف «إينزيج» النقود البدائية بأنها «وحدة أو شىء يتميز بدرجة معقولة من التماثل، تستخدم فى تقدير أو تسوية المدفوعات، كما أنها تتمتع بقبول واسع كوسيط للدفع». ومن أمثلة النقود البدائية فى المجتمعات القديمة: القواقع فى الصين وإفريقيا، وأسنان الحيتان فى جزر فيجى، وأنواع معينة من الخرز فى قارتى أمريكا.. إلى غير ذلك من أنواع مختلفة من العملات قبل المعدنية التى يرجع تاريخها إلى عام 3000 قبل الميلاد.
أعقب ذلك ظهور المعادن غير المسكوكة كوسيط للتبادل ثم ظهرت المعادن المسكوكة فى عهد الإغريق. وقد عرف قدماء المصريين استخدام الحبوب فى معاملاتهم التجارية وتوسعوا فى ذلك أكثر من أى حضارة أخرى. وبينما انتشر استخدام المعادن النفيسة كمسكوكات عند الحضارات المتوسطية، فإن الحضارة الصينية القديمة عندما عرفت المسكوكات نقلا عن الحضارة المصرية فى الغالب، فقد عمدت إلى سك المعادن الأساسية لا النفيسة بخلاف الحضارة التى نقلت عنها، وبالتالى فقد لعبت سلطة الدولة دورا مهما فى النظام النقدى القديم للصين.
***
ومع توسع التجارة الخارجية منذ منتصف القرن الخامس عشر ومع اكتشاف العالم الجديد، فإن استخدام الذهب والفضة فى إتمام الصفقات الكبرى على وجه الخصوص بات شديد الصعوبة، بحيث بدأ التوسع فى استخدام أشباه النقود كوسائل لتسوية المعاملات ومنها الفواتير والأذون وصكوك صرف كمية معينة من المعادن. وهو ما ترتب عليه ظهور ما يعرف بـ«خازن الذهب» أو goldsmith الذى تودع عنده المعادن النفيسة والعملات مقابل سند أو صك مديونية يقوم الدائن باستخدامه فى معاملاته ومع مرور الوقت بدأ المتعاملون يتداولون تلك الصكوك ولا يذهبون إلى الخزينة إلا فيما ندر، حيث توفر فى تلك الصكوك عنصرا الائتمان والقبول العام، بالإضافة إلى الندرة الناتجة عن التميز فى طباعتها وعدم قابليتها للتزييف.
وبشعور الحكومات المختلفة بالأثر الاقتصادى الخطير لعمليات الإصدار النقدى، قام المشرع فى العديد من الدول بقصر عملية الإصدار على بنك واحد يخضع للإشراف الحكومى. ولقد كانت النقود الورقية التى صدرت فى أوائل القرن الثامن عشر، تحمل على ظهرها عبارة تتعهد فيها الهيئة المصدرة لها بالوفاء بالقيمة الحقيقية للنقد وتحويل قيمتها الاسمية إلى ذهب عند الطلب. وكانت تتميز هذه النقود بثبات قيمتها لإمكانية استبدالها إلى ذهب فى أى وقت، بالإضافة إلى تجنب ضياع العملات المعدنية وتآكلها نتيجة تداولها وإعادة سكها وصياغتها.
وقد جاءت النقود الائتمانية لتنهى الصلة نهائيا بين النقود والمعادن النفيسة. وتنقسم النقود الائتمانية إلى نقود قانونية ونقود ودائع. وسميت «النقود القانونية» بهذا لأنها لا تستند إلى غطاء سلعى، وتستمد قوتها من قوة القانون وقبول الأفراد لها قبولا عاما، ونظرا لاحتكار البنك المركزى للدولة المصدرة حق إصدارها. وتمثل هذه النقود دينا على الدولة تجاه القطاعات الأخرى، ويتحتم على البنك المركزى الاحتفاظ بأصول مساوية فى قيمتها لقيمة ما أصدره من نقود، وتسمى هذه الأصول بالغطاء النقدى.
وقد كان التحول من قاعدة الذهب التى نشأت عام 1900 ثم استبدالها بقاعدة احتياطى الذهب عام 1934 ثم ما نصت عليه اتفاقية «بريتون وودز» عام 1944 بمثابة فاصل جديد فى عولمة النظام النقدى العالمى حيث بموجب تلك الاتفاقية تقوم كل دولة بتحديد سعر صرف لعملتها فى مقابل الذهب (زائد أو ناقص واحد فى المائة) وقد كانت الولايات المتحدة الأمريكية هى المستفيد الأكبر من هذا النظام نظرا لخروج الاقتصاد الأمريكى قويا بعد الحرب العالمية الأولى فى الوقت الذى شهدت خلاله اقتصادات أوروبا انهيارا ملحوظا نتيجة لخوضها تلك الحرب.
ثم كان انهيار نظام بريتون وودز وبدء التحول من السياسات الكينزية إلى سياسات النقوديين فى أغسطس من عام 1971 حينما أعلنت الولايات المتحدة توقف قابلية الدولار الأمريكى للتحول إلى الذهب. أما الخطوة الكبرى فى سبيل عولمة العملة النقدية فكانت فى عام 1999 مع ظهور اليورو الذى يمثل أول عملة أوروبية موحدة.
***
وبنفس الكيفية التى شعر من خلالها المتعاملون بصكوك الذهب المودعة بالخزائن أنهم نادرا ما يلجأون إلى صرف هذا الذهب ولكن عوضا عن ذلك يتبادلون تلك الصكوك فيما بينهم للوفاء بالتزاماتهم الناتجة عن المعاملات، فإن ورق البنكنوت ما إن تم إيداعه بالبنوك حتى شعر المتعاملون أنهم نادرا ما يلجأون إلى صرفه مباشرة خاصة فى المعاملات الكبيرة، فما كان منهم إلا أن يقوموا بصرف أوراق تجارية ثم تداولها بالتظهير، ومن خلال المقاصة بين البنوك تنتقل الأموال من عميل إلى آخر فى أطراف العالم.
أما المرحلة الأحدث فى سلم التطور النقدى فهى تلك التى ارتبطت بالتقدم التكنولوجى، والطفرة المعلوماتية، وربط العالم كله إلكترونيا من خلال شبكة الإنترنت. ففيها يتنازل المتعاملون عن تداول الأوراق النقدية أو حتى الأوراق التجارية فى سداد التزاماتهم وتحصيل مستحقاتهم، ويتم التداول من خلال مدفوعات رقمية. فبطاقات الائتمان التى تستخدم فى الدفع لا تتداول بالكيفية التى يتم تداول الأوراق النقدية أو التجارية بها، فالمشترى لا يعطى البائع كارت الائتمان الخاص به ثمنا لبضاعته، ولكن يتم استخدام مجموعة من البيانات المشفرة على الكارت لسداد الالتزامات مباشرة.
وعلى الرغم من أن خدمة تحويل الأموال قد بدأت فى الولايات المتحدة الأمريكية فى عام 1918 وذلك عندما قامت بنوك الاحتياط الفيدرالى بنقل النقود بواسطة التلغراف، فإن الاستخدام الواسع للنقود الإلكترونية لم يبدأ إلا فى عام 1972 عندما تأسست دار المقاصة الآلية فقد تولت هذه المؤسسة عملية إمداد خزانة الولايات المتحدة الأمريكية وأيضا البنوك التجارية ببديل إلكترونى لإصدار الشيكات. وعلى غرار هذا النظام، انتشرت أنظمة متشابهة فى أوروبا، ونتج عن هذا استخدام النقود الإلكترونية بصورة كبيرة حيث تتم المدفوعات فى النظم المصرفية العالمية بطريقة إلكترونية من خلال عدد من شبكات الكمبيوتر القائمة بين البنوك. أما البطاقات البلاستيكية الإلكترونية، والتى تعد الصورة الرئيسة للنقود الإلكترونية، فلم تعرف إلا فى عام 1970 على يد مخترع يابانى اسمه Kunitaka Arimura .
وبالقياس المنطقى على المراحل التى مر بها التطور النقدى، يتبين أن الخطوة التالية فى تطور التعامل بالنقود الإلكترونية هى توقف البنوك عن تحويل الأرصدة فى صورتها المادية، والاكتفاء بتحويل بيانات رقمية من عميل لصالح عميل آخر، وهو ما يتم الآن بصورة جزئية عندما تقوم البنوك بعمليات مقاصة واسعة تتوقف خلالها عن التحويل المادى للأرصدة. وقد تراجع دور التسوية النقدية باستخدام أوراق البنكنوت لتمثل 17% من إجمالى حجم النقود عالية السيولة M1 فى العالم، و 7% فقط من إجمالى حجم M3 فى نهاية ديسمبر عام 2000.
***
العملات الافتراضية هى الشكل الأحدث للنقود الالكترونية، وهى تكتسب قيمتها من حجم التعاملات داخل ما يعرف بالـblock chain أو سلسلة الكتلة، التى تقيم نظاما متكاملا للتداول يقبل عملة معينة، ويسخر فى سبيل ذلك تقنيات شديدة التعقيد لحماية سرية وتدفق وتسوية العمليات. حجم التعاملات الذى يتحكم فى المعروض النقدى من البنكنوت ــ التقليدى ــ وفقا لمعادلة «فيشر» الشهيرة، مازالت تحكم قيمة العملة الافتراضية وليس بالضرورة كمية المعروض منها خاصة إذا كانت الكمية تتميز بالثبات. المضاربات التى تشهدها عقود الخيارات وسائر المشتقات على عملات افتراضية مثل «بيتكوين» أكسبت هذا النوع من النقود سمعة سلبية، لكن ما لا يعرفه الكثيرون أن المضاربات والتقلبات لازمتان لأسواق تداول العملات، وتزداد التقلبات كلما كان هناك درجة عالية من السرية وعدم اليقين.
تراجع دور الدولة بمؤسساتها المستقرة لصالح أشكال أخرى غير رسمية هو السمة الغالبة على كثير من أوجه النشاط الاقتصادى. الاقتصاد التشاركى فى مجال النقل ــ مثلا ــ بات يستحوذ على نصيب متزايد من السوق على حساب وسائل النقل العام. ظهور سلاسل الكتل فى مجال أسواق المال هو ما دفع كثيرا من بورصات الأوراق المالية العالمية إلى الاندماج فيما بينها لمواجهة منافسة عنيفة فى تكاليف التداول والقيد.
ربما تشهد الأعوام القليلة القادمة تراجعا كبيرا فى دور البنوك المركزية لصالح سلاسل كتل تمر خلالها تعاملات تقدر بتريليونات الدولارات. بقى أن يستعد العالم لتلك الطفرة، بوضع أسس لحوكمتها، والحد من فرص غسل الأموال والتهرب الضريبى عبر تعاملات يتم تسويتها بنقود افتراضية.