فى البحث عن كونفوشيوس

العالم يفكر
العالم يفكر

آخر تحديث: الإثنين 1 يناير 2018 - 9:59 م بتوقيت القاهرة

نشرت مؤسسة الفكر العربى مقالا للباحثة «لبنى الأمين» ــ أستاذة العلوم السياسية فى جامعة نورثويسترن ــ شيكاغو؛ والذى يتناول الحديث حول الفلسفة الكونفوشيويسية فى إطار بحث الكاتبة عن تاريخٍ للفلسفة مختلف، ليس حكرا على الغرب كما كانت الفلسفة وما زالت، فى البلدان الغربية كما فى البلدان الشرقية، بالإضافة إلى فكرة الطقوس والموروثات التى يقوم عليها هذا الفكر بدلا من فكرة القوانين.

فى البداية تقول الكاتبة يجيبنى كثيرون، ردا على قولى إننى أدرسُ الفكر الكونفوشيوسى السياسى القديم، أنهم لا يعرفون شيئا عن الكونفوشيوسية. لكننى أنا كذلك لم اكتشف الكونفوشيوسية إلا عندما بدأتُ الدراسات العليا فى الولايات المتحدة، أى فى وقت متأخر إلى حدٍ ما، وقد يبدو الاكتشاف، بحسب وجهة النَظر، إما صدفة أو نتيجة ضرورية لشىء كنتُ أبحث عنه.

كنتُ أبحث عن تاريخٍ للفلسفة مختلف، ليس حكرا على الغرب كما كانت الفلسفة وما زالت، فى البلدان الغربية كما فى البلدان الشرقية. نتعلم فى صفوفنا أن الفلسفة تبدأ مع سقراط وأفلاطون وأرسطو، وتنتهى فى القرن العشرين مع جان بول سارتر وميشال فوكو وجون رولز، مرورا بفلاسفة ذوى شهرة كبيرة كجون لوك وجان جاك روسو وكارل ماركس. رواية كاملة مُحكَمة نتلقنها عن أفكار هؤلاء الفلاسفة حول الحياة والأخلاق والسياسة والمجتمع وعن العلاقات المعقدة التى تربط بينهم وبين أفكارهم، حتى يبدو أنها تفسِر الإنجازات البشرية المفصلية كلها وتلخِص جوهر الفكر الإنسانى.

وترى الكاتبة أن المفكرين هؤلاء لا يمثلون إلا جزءا محدودا من شعوب العالَم، فهل يُمكن أن شعوبا بأكملها، عربية وآسيوية وإفريقية، لم تُنتِج فكرا يرتقى إلى مرتبة الفلسفة خلال أكثر من ألفَى سنة؟ 

***

هذا السؤال هو الذى شغل الكاتبة، كواحد من الأسئلة التى نطرحها على أنفسنا، نحن الذين كبرنا فى الشرق وتعلمنا عن الغرب فسعينا إلى فهم العلاقة بينهما. وكان من المُمكن أن يحملنى هذا السؤال إلى دراسة عالَمنا العربى والإسلامى، وقد يبدو بالفعل هذا الخيار الأكثر طبيعية، إنْ بسبب اللغة أو بسبب الألفة التى تربطنى بهذا العالَم وتفصل بينه وبين الصين. فباستثناء مبادراتٍ للتواصل فى منتصف القرن العشرين بين بعثاتٍ صينية وجامعة الأزهر فى مصر، بقى التواصل الفكرى والثقافى بين الصين والعالَم العربى محدودا فى القرن الأخير. 

وتوضح الكاتبة أسباب اختيارها طلب العلم عن الصين. السبب الأول هو أنها أرادت أن تخرج من العالَم العربى قليلا وعن المسار الذى يتبعه كثيرون فى دراسة بلادهم وقيَمهم، أى أنفسهم، وهى ظاهرة فى العمل الأكاديمى والبحثى لا تقتصر على العالَم العربى بل هى شائعة فى بلاد الشرق، وتُشجِعها الجامعات الغربية التى غالبا ما تطلب من الطلاب الشرقيين دراسة المناطق التى ينتمون إليها، والتى يفتقر الغرب المعرفة عنها.

أما السبب الثانى فهو أن الفلسفة الصينية ظهرت فى الفترة التى ظهرت فيها الفلسفة اليونانية القديمة، أى بين القرن السادس والقرن الثالث قبل الميلاد. وهى منذ ظهورها، ولمدة تُقارِب الألفَى سنة، نمت بمعزل عن الغرب، إذ لم يبدأ تأثير الأخير على التيارات الفكرية فى الصين إلا مع وصول الإرساليات اليسوعية إليها فى القرن السادس عشر. وهذه العزلة الفكرية الصينية، على الأقل بالنسبة إلى الغرب (إذ كان للصين تواصلٌ فكرى كبير مع الهند مثلا)، تسمح بإعادة التفكير بتاريخ الفكر، وبإعادة التفكير ببداياته بالتحديد. فبحسب الرواية الغربية، ليس سقراط وأفلاطون وأرسطو أوائل الفلاسفة فقط، ولكنهم أيضا مشيدوها. بدأت معهم كل الأفكار الفلسفية المحورية من فكرة الفلسفة نفسها إلى أفكار كالحقيقة والعدالة والفضيلة والحرية. وهذه السردية تجعل من الأفكار هذه ليس بديهية فقط ولكن ضرورية أيضا، إذ هى كانت وما زالت الوحيدة. ولكن أفكارا أخرى لم تكُن مُمكنة بالمبدأ فقط، بل كانت مُمكنة فعليا. ففيما كان سقراط وأرسطو وأفلاطون ينتجون أفكارهم هذه التى أصبحت ضرورية، كان فلاسفة مختلفون، فى بقعة بعيدة من العالَم، ينتجون أفكارا أخرى ويؤسِسون لتاريخٍ فكرى مختلف. 

***

وقبل تقديم بعض المقتطفات من هذا الفكر، أتوقف هنا عند نبذة تاريخية سريعة لعلها تفسِر الوسط السياسى والاجتماعى الذى تجلى خلاله. وكما ذكرت سابقا، فإن الكونفوشيوسية ظهرت نحو القرن السادس قبل الميلاد، بظهور كونفوشيوس نفسه. والفترة الفاصلة بين القرن السادس والقرن الثالث قبل الميلاد، والتى ظهر فيها أيضا المُريدان الأساسيان لفكر كونفوشيوس وهُما منسيوش وشونزى، كانت حقبة تحولات سياسية واقتصادية واجتماعية كبيرة فى بلاد الصين (التى تضمنت وقتها مساحة كبيرة تقع على ضفتَى النهر الأصفر، فى شمال شرق جمهورية الصين الشعبية اليوم). أتت هذه الفترة فى أعقاب انهيار حكم سلالة الجو، التى حكمت المنطقة نحو ٨٠٠ عام، وحلت محلها دويلات صغيرة تنازعت على السلطة. وبسبب انهيار النظام الإقطاعى الذى حكمت من خلاله سلالة الجو، عرفت هذه الفترة حراكا اجتماعيا كبيرا مهَد لظهور حركاتٍ فكرية متعددة كانت الكونفوشيوسية تيارا واحدا منها (ولكنه التيار الذى فاز بتبنيه من قبل السلالات الحاكِمة اللاحقة). ولم تتوحد الدويلات الصينية تحت حُكمٍ إمبراطورى من نوعٍ جديد إلا سنة ٢٢١ قبل الميلاد تحت حكم التشين الذين لحقهم سريعا الهان، والهان هُم الذين جعلوا من الكونفوشيوسية أساسا لشرعية حكمهم فاستمر الحكام الصينيون فى ذلك أكثر من ألفَى سنة، أى حتى الحقبة الماوية فى القرن العشرين. ومع فشل الشيوعية كأساس للحُكم، تعود الكونفوشيوسية تدريجا إلى واجهة الحُكم فى الصين اليوم، والدليل على ذلك، على صعيد العلاقات الدولية، اهتمام الحكومة الصينية فى السنوات الأخيرة بإنشاء المعاهد الكونفوشيوسية فى بلدان كثيرة، منها بلدان عربية.

يصعب تصنيف الكتابات الكونفوشيوسية فى ميدانٍ معرفى محدَد. فهى ليست فلسفية بمعنى أنها لا تقدِم حججا تدافع من خلالها عن أفكارها كما يفعل أفلاطون مثلا. وهى ليست دينية إذ هى تخلو بصورة شبه كاملة من الميتافيزيقيات، فتكون بذلك مختلفة أشد الاختلاف عن التيارات الآسيوية الأكثر شهرة كالبوذية. هى أقرب ما تكون إلى فكرٍ مجتمعى يرنو إلى توسيع علاقة الأفراد الواحد بالآخر. وستركز الكاتبة هنا على إحدى أهم ركائز الفكر الكونفوشيوسى، ألا وهو فكرة الطقوس.

***

الطقوس ركيزة الفكر الكونفوشيوسى

يفضِل كونفوشيوس حُكم الطقوس على حُكم القانون، أى أن يتم تنظيم المجتمع من خلال تقاليد مُتوارَثة من جيلٍ إلى جيلٍ بدلا من أن يتم من خلال تعليمات يُطلقها الحاكِم. والمنظومتان، أى القانون والطقوس، مبنيتان على الإكراه، ولكن القانون مَبنى على أنواعٍ مادية من العقاب (كالسجن مثلا) تفرضه الدولة، بينما الطقوس يفرضها المجتمع نفسه على أعضائه، من خلال أنواعٍ من العقاب غير مادية مثل «العار»، تثنى أفراد المجتمع عن الخروج عن الطقوس. ومفهوم الطقوس هذا أساسه تفاؤل فى قدرة الإنسان على التماثل بالقيَم الأخلاقية والمجتمعية، على الأقل إلى درجة ما.

وعلى سبيل المثال، فإن طقوس العزاء هى من أهم الطقوس التى يشجعها الكونفوشيوسيون. وهدفها من جهة تسهيل ألم الفقدان من خلال التركيز على خطواتٍ ومَراسِم معينة تستمر لأشهر عديدة. ومن جهة ثانية، فإن هدفها تشجيع الفضيلة والعلاقات بين الناس، وكذلك احترام الأهل والتماثُل بهم حتى بعد رحيلهم؛ إذ تتمثل أهم الفضائل التى يشدِد عليها الكونفوشيوسيون فى كون طقوس العزاء بالنسبة إلى الأهل أهم من طقوس العزاء نفسها. ولكن هنا ينبغى الذكر أن طقوس العزاء نفسها تختلف بحسب الرتبة التى يحتلها المُعزى به، فكلما علت رتبته طالت فترة العزاء، وزاد اللباس المطلوب ترفا وحتى نوع القبر المُستخدَم أيضا. والهدف من ذلك الدلالة على المستوى الاجتماعى وإظهاره واضحا للآخرين. إذن التفاؤل بقدرات الإنسان الأخلاقية لا تفضى إلى المساواة، بل إلى التراتبية.

لقد ارتبطت الصين والكونفوشيوسية فى الصورة التى بناها عنها الغرب، فى كتابات ماكس ويبر مثلا، بالتراتبية الجامدة وبالجمود الاجتماعى. وقد تؤدى هذه الصورة إلى الاعتقاد بأن الكونفوشيوسيين تبنوا التمييزات الإقطاعية نفسها التى كانت شائعة فى الصين القديمة قبل دخولهم الساحة الفكرية. ولكنهم وبالعكس، كانوا، كغيرهم من مفكرى الصين فى تلك الحقبة، من مشجعى الحراك الاجتماعى الذى واكبها. وقد عبر كونفوشيوس عن رفضه القاطع للتمييزات الإقطاعية، مؤكدا على غياب الفوارق بين البشر عند الولادة، ومن الأقوال المنسوبة إليه: «فى الطبيعة مُتشابهين، فى المُمارسة مُختلفين» (أقوال كونفوشيوس ١٧:٢). التراتبية التى ترتكز عليها المنظومة الكونفوشيوسية هى فى الحقيقة تراتبية مبنيَة على الجدارة الأخلاقية وليس على الموروثات الاجتماعية أو الاقتصادية.

والسؤال الجوهرى الذى يطرحه هذا الجانب من الفكر الكونفوشيوسى هو كيفية التوفيق بين المساواة عند الولادة والتراتبية فى المجتمع. فالفكر اليونانى القديم يركِز فى المقابل على الاختلافات فى الطبيعة من جهة (من هنا قبول أفلاطون وأرسطو بمفهوم العبودية، بينما ليس لدى المفكرين الصينيين مفهوم مشابه)، وعلى المساواة فى الحياة السياسية من جهة أخرى (من هنا الفكرة الديمقراطية لدى اليونانيين والتى لا نجدها فى الصين القديمة). 

وختاما تطرح الكاتبة إجابة للسؤال الذى قد يطرحه القارئ هنا عما إذا كانت لهذه الأفكار، ولهذه الفوارق بين الفِكر اليونانى والفكر الصينى القديم، أهمية تتعدى الحشرية الفكرية. والجواب واضح لدى العديد من المثقفين الصينيين اليوم الذين يطالبون بنِظامٍ مَبنى على الجدارة، والتراتبية التى تنتج عنها، بدلا من النظام الديمقراطى الليبرالى الذى يعتبرونه غربيا. ولكن الأفكار القديمة لا تكمن أهميتها فى الماضى وفى الحاضر فقط، ولكن أيضا فى المستقبل. فهى تسمح لنا، كما لمحتُ أعلاه، بإعادة التفكير بضرورية الحاضر وبالتالى بتخيل مستقبل يختلف عنه. من ثوابت عالَمنا اليوم التعايش (وقد يقول البعض، الارتباط الوثيق) بين المساواة والحرية من جهة، والإقصاء وأشكال مختلفة من العبودية من جهة أخرى. لذا قد يكون الاطلاع على منظومات فكرية لا تتبنى هذه الثنائية نوعا من التحرر من هذه الثابتة. 

النص الأصلى 

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved