أسرار النهاوند
داليا شمس
آخر تحديث:
السبت 1 فبراير 2025 - 6:45 م
بتوقيت القاهرة
لى علاقة خاصة بمقام النهاوند المتنقل بين الحزن والفرح. هو رقيق عذب، وكلما أحببت أغنية اكتشفت أنها من هذا المقام الذى يصلح لكل أنواع التأليف الموسيقى ويعرف بإيحاءاته العاطفية. ندندن «رق الحبيب» و«ما دام تحب بتنكر ليه» و«إمتى ح تعرف إمتى» و«يا مسافر وحدك» و«أيظن» و«عصفور طل من الشباك» و«بنت الشلبية» و«لا إنت حبيبى» والعديد من الموشحات مثل «لما بدا يتثنى» ولا نلاحظ أن القاسم المشترك بين كل هذه الألحان الشجية هو مقام النهاوند. كما فهمت أيضا أخيرًا أنه سر انجذابى لتلاوة الشيخ مصطفى إسماعيل الذى يقرأ على مقام النهاوند، هو والشيخان الحصرى والمنشاوى. ويقال إنه جاء ذكر هذا المقام الطربى لأول مرة فى كتاب لمؤلف مجهول بعنوان «كنز التحف» فى القرن الرابع عشر الميلادى، فى حين يرجع أصله إلى بلاد فارس القديمة وتحديدا لمدينة «نهاوند» التى أخذ منها اسمه، وهى تقع فى إيران حاليا وكانت دائما مأهولة بالسكان منذ عصور ما قبل التاريخ. ثم انتشر المقام تدريجيا فى تركيا والبلاد العربية، وتفرعت منه أشكال ودرجات مختلفة وصار له عائلة تشمل مقامات ثمانية اشتقت من جنس الأصل.
• • •
مرة أخرى شدنى النهاوند دون أن أدرى عند زيارة معرض لوحات عازف العود العراقى الشهير نصير شمة الذى استمر حوالى عشرة أيام فى قاعة الباب، إلى جوار متحف الفن الحديث بدار الأوبرا. وقف الفنان وسط مجموعة من الأصدقاء يشرح لهم قصته مع هذه الأعمال التجريدية والتى بدأت مصادفة بمصر أثناء ثورة 25 يناير 2011. حكى أنه لم يكن قادرا على العزف تحت وطأة الأحداث وكان يحرس منزله ليلا مثل معظم الناس لكى تطمئن أسرته الصغيرة، فلجأ إلى اللوحات والألوان كى يفرغ شحنة المشاعر التى ساورته وقتها، وكان التجريد هو سبيله إلى ذلك. ربما لأن ما يتجرد يصبح أكثر مدعاة للتأمل، ولأن الموسيقى هى أكثر الفنون تجريدًا.
حاول نصير شمة التعامل مع اللون بشكل يشبه التعامل مع الموسيقى وتأثيرها على النفس البشرية، فجرس اللون يلامس ما يتوافق معه فى روح الإنسان وعقله الباطن وأفكاره، بعيدا عن التمثيل المباشر لما حولنا. خلق علاقات تقوم على التعاطف الداخلى مع المعانى التى تحملها اللوحة لإحداث ما يشبه الذبذبات الموسيقية. وكذلك عمل على توليف العديد من الإيقاعات اللونية المختلفة، واستلهم كل لوحة من مقام مختلف.
هنا توقفت عند ثلاث لوحات بعينها لأسأل عن المقام الذى استوحاها منه، إذ لفتتنى بشكل تلقائى، فاتضح أنه النهاوند وتفاجأت مرة أخرى، وقلت فى سرى «هذا المقام ورائى ورائى». قد لا يكون عازف العود الشهير ملما بالكثير من القواعد الأكاديمية على غرار المتخصصين فى الفنون البصرية، وغالبا يسعى الناس لاستكشاف عالمه التشكيلى من باب الفضول أو رغبةً منهم فى رؤية جانب آخر من شخصية فنان ارتبطوا بحفلاته الموسيقية.. وبالطبع تلعب شهرته دورا فى استقبال أعماله والسعى لاقتنائها، لكن تجربته أيضا فرصة للولوج إلى العالم السحرى لتداخل الحواس وترافقها التى تجعل لدى البعض القدرة على أن يسمعوا اللون ويروا الموسيقى. أى ترى كما لو أنك تسمع، والعكس صحيح، حين تقف أمام لوحة أو تحضر حفلا موسيقيا، وهى حالة معروفة لدى الكثير من المبدعين.
وهى فرصة أيضا للحديث عن العلاقة بين الموسيقى ونشأة الفن التجريدى فى بدايات القرن العشرين، وعن شخصيات بعينها ربطت فى أعمالها بين التشكيل والموسيقى، فكلاهما يسعى لمخاطبة الروح والأحاسيس والخيال.
• • •
تمرد بعض فنانى هذا الوقت على المدارس والأساليب القائمة واقتبسوا تجريد الموسيقى، لكى يبعدوا عن محاكاة الواقع بكل صورها. ابتكر الفنان الروسى فاسيلى كاندنسكى (1866-1944) عالما يتسامى عن الأشكال المادية واعتقد أن التجريد التام يعبر عن المشاعر بطريقة أكثر عمقا. انقلبت حياته رأسا على عقب بعد حضوره حفل للملحن والرسام النمساوى آرنولد شوينبيرج، أحد رواد الحداثة الموسيقية، واستمرت مراسلاتهما حوالى عشرين عاما، إذ قال كاندنسكى بعد سماع العزف فى تلك الليلة: «إن المصير والحياة المستقلة للأصوات الفردية فى المؤلفات الموسيقية هو بالضبط ما أحاول أن أصل إليه فى رسومى». توالت كتبه وتنظيراته بهذا الصدد، وكذلك لوحاته التجريدية التى اعتبرها البعض «سيمفونيات لونية»، فهو يشبه اللون الأزرق الباهت مثلا بموسيقى الناى، والأزرق الداكن بصوت آلة التشيلو، وحين يصل إلى أعلى درجاته فهو يقترب من الأرغن الكنسى، أما الأخضر فهو الأكثر تعبيرا عن الطمأنينة والهدوء. وفى كتابه «الروحانية فى الفن»، أعطى مثالا على تضافر الحواس من خلال حكاية شخص يشعر بمذاق الألوان فى فمه حتى يصف طعاما معينا بأنه «أزرق النكهة».
صديقه الرسام السويسرى الألمانى بول كلى (1879-1940) كان أيضا يهوى الموسيقى ويجيد العزف على آلتى الكمان والبيانو، حتى إنه تردد عند دراسته للفنون الجميلة واحترافه وهو فى منتصف العشرينيات من عمره. حبه الشديد لموزار وباخ تحديدا دفعه لأن يخلق لوحات غنية بالألوان والتفاصيل المتوازية التى تشبه كثيرا تعدد الأصوات فى الموسيقى. وعلى هذا النحو نسمع ونرى ونستمتع بأعمال فنية مختلفة تعبر الزمان والمكان وتخاطب وجداننا بشكل مستقل، سواء كانت لهؤلاء المبدعين الذين ذكرتهم أم لآخرين.. يهربون أحيانا من مجال إلى آخر.. تعاندهم الآلة التى يعزفون عليها أو تجافيهم الألحان فيبحثون عن الأوراق والقلم أو العجائن اللونية، ويبقى الهدف دائما مهما تعددت الوسائط: التعبير عن الذات وتحقيق تواصل المشاعر والأرواح. ويكون من حظنا كمتلقين أن ننجذب لمقام بعينه فنطرب للنهاوند أو نفضل صولو كمان أو لوحة زينت بألوان داكنة، دون أن نعرف السر وراء ذلك.