محمد جبريل.. وأنفاس «بحرى» الغاربة!
إيهاب الملاح
آخر تحديث:
السبت 1 فبراير 2025 - 6:45 م
بتوقيت القاهرة
(1)
بكثيرٍ من الحزن والألم والحسرة ودعنا الكاتب السكندرى القدير محمد جبريل الذى غادرنا عن 88 عامًا مساء الأربعاء الماضى، أحد أهم ما بقى من شجرة جيل الستينيات التى كادت تذوى أو تغيب تمامًا. لم يكن محمد جبريل مجرد كاتب وروائى ترك ما يزيد على خمسين أو ستين مؤلفا ما بين رواية ومجموعة قصصية، بل كان له إنتاج غزير متنوع بين الدراسة الأدبية، والترجمة الغيرية، والدراسات النقدية.. عشرات من الكتب والمؤلفات والمقالات كان أغلبها موضع احتفاء وتقدير، وأثَّرت فى أجيال وأجيال، وفتحت لهم الباب على مصراعيه، ومهدت لهم الطريق، كى يبدأوا مشوارهم الأدبى والنقدى بثقة وتمكن ورسوخ.
كاتب وروائى من الأصوات ذات التاريخ والإنتاج المعتبر فى تاريخنا الأدبى المعاصر، وجهوده الإبداعية والنقدية، تشكل مكتبة ضخمة بذل فيها الجهد والعرق والإخلاص، والنوايا الطيبة، ولعلى أحد هؤلاء الذين أفادوا أيما إفادة من هذه الجهود، فضلًا عن طاقته الإنسانية ومساحات الدعم الإنسانى والإبداعى التى سمعت عنها الكثير من أصدقاء وصديقات، باتوا الآن ضمن كتّاب الصف الأول فى جيلهم.
(2)
صحيح أننى لم أكن من المتصلين اتصالًا مباشرًا بمدرسته الأدبية ولا اتجاهه فى الكتابة الروائية، ولا بصالونه الأدبى العظيم الذى احتضن مواهب وأصواتا مبدعة شابة صارت الآن فى الصف الأول من نجوم الكتابة والإبداع فى مصر (الطاهر شرقاوى، ونهى محمود، ومحمد أبو زيد، ومحمد الفخرانى، وأحمد شافعى، ومحمد عبد النبى، وغيرهم) لكننى كنت ممن تأثروا بكتاباته فى الدراسات الأدبية والنقدية، ومقالاته الممتازة التى كان يدبجها عن أعلام النهضة الفكرية والثقافية والأدبية فى مصر والعالم العربى على مدى قرنين من الزمان.
كان لمحمد جبريل - بالتأكيد - دور تأسيسى فى توجيهى، وفى فترة مبكرة، إلى التعرف على الكثير من الأسماء والكتب والشخصيات المهمة، والمشروعات الكتابية والفكرية والإبداعية الأصيلة.
صحيح أننى فى تلك الفترة لم أكن مهتمًا بدرجة كبيرة بقراءة أعماله الإبداعية التى أدركتها وأنا فى الجامعة، لكننى أجزم بأن عددًا كبيرًا من كتبه ودراساته الأدبية والنقدية التى قرأتها قبل دخولى الجامعة كانت من أهم ما قرأت، على الأقل فى تلك الفترة، ولم يفتنى منها شىء.
كانت إطلالاته الرائعة على مظلة ضخمة وواسعة لكل صاحب منجز فكرى أو علمى أو ثقافى أصيل، سببا رئيسيا فى الالتفات لأصحاب المشروعات الثقافية والأساليب الكتابية المتميزة خارج دوائر الإبداع الأدبى الخالص.
فكان سببًا - على سبيل المثال - أن ألتفت فى سن مبكرة للغاية إلى أهمية وقيمة وجمالية مؤلفات العالم الجغرافى الفذ جمال حمدان، أو خصوصية وأناقة أسلوب أحمد بهاء الدين، ثم الإشارة بعين الاهتمام والمحبة والتقدير لاسم المرحوم الدكتور حسين فوزى صاحب «السندباديات» الرائعة، وبخاصة كتاباه المرجعيان الممتازان «حديث السندباد القديم»، و«سندباد مصرى» فى وقتٍ توارى فيه هذا الاسم تمامًا لأسبابٍ يطول شرحها.
(3)
بعد سنواتٍ من هذا التعرف العام، وبعد أن خضت تجربة قراءة العديد من أعماله الروائية والقصصية خلال مرحلة الدراسة الجامعية، أدركت أن له مزاجًا خاصا فى «التجريب» والتنقيب فى تراثنا العربى الزاخر، والبحث عن روافد جديدة للاستلهام الروائى والقصصى..
وقد قدم فى هذه الدائرة محاولاتٍ جديرة بالقراءة، أفادت مما تزخر به الملاحم والسير والتراجم والحكايات الشعبية، فضلا عن تراث المرويات العربية (الأخبار والنوادر والطرائف والأمثال والحكم والمواعظ.. إلخ) من إمكانات هائلة، مضمونية وشكلية، وقدَّم، على سبيل المثال: «الأسوار»، «إمام آخر الزمان»، «من أوراق أبى الطيب المتنبى»، «قلعة الجبل»، و«اعترافات سيد القرية».. وغيرها.
أدركت أيضًا أنه من المولعين بل المهووسين بالجمع والتصنيف و«الأرشفة» ما أتاح له كمّا مهولا من المواد ذات الصلة بالإبداع الأدبى والتراث وفلسفة الكتابة وتصوراتها الفنية والجمالية، ولعل هذا - فيما أتصور- الدرس الأهم الذى وعيته وتعلمته من محمد جبريل ككاتب وصحفى ومشتغل بالكتابة الأدبية والنقدية والبحثية أيضًا.
كان رحمه الله منظما واعيا تماما بضرورة اقتناص الجملة والعبارة والمقولة لحظة العثور عليها، وتوثيقها فى الآن ذاته، ولهذا فقد سعى إلى توظيف ناتج هذه القراءات الغزيرة بكل السبل الممكنة؛ على صعيد الصحافة الثقافية التى كان أحد أهم المشتغلين بها والناشطين فيها، ومن خلال مقالاته فى الصحف والدوريات المختلفة، وبالأخص فى «الجمهورية» و«المساء».
وظف هذه الثقافة الموسوعية وآلية ترصيع كتاباته بعديد من العبارات والمقولات «الموثقة» لكبار الكتاب والمفكرين والفلاسفة (وذلك قبل شيوع الآلية النقيضة التى انتشرت كالوباء؛ النقل الأعمى والاستسلام لبحر هادر من المقولات الزائفة والمفبركة والمختلقة ونسبتها لأعلام مشهورين).
حينما وصلنى نعى الراحل الكريم، وجدتنى أحمل أطنانًا من الامتنان لهذا الرجل الطيب (هكذا ترسخت قناعتى عنه، وتصورى له، رغم أنى لم أقابله أبدًا) خصوصًا بعد أن احترفت مثله الكتابة والاشتغال بالصحافة الثقافية، والتقيت كثيرين من أبناء جيلى الذين أجمع أغلبهم على الدور التأسيسى الذى لعبته (ندوته الأسبوعية) فى اكتشاف أبرز أصوات ما عرف بجيل الكتابة الجديدة، أو ما بعد عقد التسعينيات.