حقا إنها للحظة تحول هامة فى الولايات المتحدة ودورها فى العالم. دولة عظمى بمسئوليات ضخمة فى مرحلة تحولات دولية كبرى يتولى الحكم فيها رئيس بدون خبرة سياسية فى الحكم أو المعارضة، رئيس بشخصية مثيرة للجدل يصعب التنبؤ بمواقفه وتصرفاته ويتمتع بقدرة فائقة على الغضب والرد الانفعالى ومتناقض السلوك ومحتقر للنخبة السياسية والأكاديمية. هذا الرئيس جاء إلى الحكم محمولا على بساط من اختلاف فى الرؤى وفقدان الثقة بينه وبين الحزب الجمهورى. الحزب الذى كان يفترض أن يرشحه ويمول حملته الانتخابية ويحشد له الناخبون، وعندما يفوز الرئيس فى الانتخابات فهذا هو الحزب الذى سوف يتعاون معه ويشرع له.
***
رئيس جديد فى نظام سياسى منهك. نظام استنفد جانبا كبيرا من طاقته وموارد البلاد فى تدخلات خارجية لم تحقق له ما يقابلها من أمن لأمريكا أو تجديد لأفكاره ومؤسساته. نظام خرج منتصرا فى حرب عالمية كلفته الكثير ولكن عاد النصر عليه بفوائد ثمينة سرعان ما انطلق يبددها فى حرب بكوريا ثم أخرى فى فيتنام وثالثة فى أفغانستان ورابعة فى العراق ومنها جميعا خرج خاسرا. جاءته فرصة ذهبية بددها هى الأخرى، كانت حين انفرد بقيادة العالم قطبا أوحد فى أعقاب انسحاب روسيا من الحرب الباردة. انفرد برأسماليته ملهما وزعيما لأيديولوجية عالمية رسمت الخطة لطريق أوحد للاقتصاد العالمى، الطريق الذى حمل الجميع نحو أزمة مالية لم يخفت أوارها طيلة عشر سنوات، ولعلها وراء كثير من مشكلات العالم الراهنة ومنها الظاهرة الترامبوية. كانت أيضا فرصة ذهبية حين اصطبغت العولمة بالصبغة الأمريكية. فات النظام الأمريكى وقتها أن ينتبه إلى ما يمكن أن تجره أمركة العولمة على الولايات المتحدة من سلبيات ومشكلات. وبالفعل ما هى إلا سنوات ليجد النظام نفسه غير قادر على مواصلة ما ابتدعه هو نفسه من سياسات أهمها حرية التجارة واتفاقات مناطق التجارة الحرة. وجد نفسه غير قادر على وقف نزوح الصناعة الأمريكية إلى دول عمالتها أرخص وعلى إبطاء صعود الصين اقتصاديا وعسكريا ووقف توسع نفوذها فى أقاليم جوارها. وجد نفسه أيضا مطالبا بتفعيل مسئولياته وأهمها ردع التقدم المتواصل لقوى وأفكار إسلامية متطرفة أطلقها بنفسه أثناء الحرب الباردة. كانت أمريكا العنصر الأهم الذى ساعد فى تطوير أهم حركات وأفكار التطرف وتجذيرها فى مجتمعاتها لتحمى مؤخرته من صحوات غير محسوبة للحركات القومية المناهضة للنفوذ الأمريكى.
***
رئيس بشخصية متذبذبة ومتوترة وانفعالية، وربما مريضة كما يشخص تصرفاته بعض أطباء أمريكا. ونظام سياسى أنهكته مغامرات القوة والتدخلات الخارجية وفضائح حكامه وبخاصة فضائح الرئيسين ريتشارد نيكسون وويليام كلينتون. أضف حقيقة، لعلها الأهم والأخطر، وهى انحسار الحلم الأمريكى. تابعنا باهتمام على امتداد العشرين عاما الأخيرة مسيرة تباطؤ الاقتصاد الأمريكى، وكانت حقا مسيرة عنيدة. راقبنا كيف أن الاقتصاد الأمريكى توقف عن أن يكون اقتصاد رخاء، صار اقتصادا غير قابل للتوسع فى الانفاق على مشاريع جديدة للرعاية الاجتماعية وإدماج أمريكيين ومحرومين ومهاجرين فيه. انخفض معدل النمو حتى وصل إلى 2.1 %، نسبة تعادل نصف معدل النمو فى سنوات الخمسينيات والستينيات. وانحسرت الإنتاجية، وهى التى كانت مصدر فخر الرأسمالية الأمريكية، إلى أقل من 1% مقارنة بـ 4.6% فى عقد الخمسينيات. أما عجز الميزانية فمقدر له فى دراسة أجرتها جامعة هارفارد فى نوفمبر الماضى أن يرتفع من 2.9% إلى 8.8% بعد ثلاثين عاما، وأن يصل الدين القومى إلى ما يعادل 141%.
***
لا جدال أن النسيج الاجتماعى الأمريكى فى حالة سيئة. كنا على دراية بما وصل إليه سوء الحال حتى جاء دونالد ترامب ليكشف بكل جلاء ممكن حقيقة أن الحال الاجتماعية أسوأ مما كنا نظن أننا على دراية بها. وصلت فجوة الدخول مثلا إلى أقصى درجة اتساع فى تاريخ المجتمع الأمريكى. كذلك تدنت إلى مستويات جديدة مختلف مصادر القوى الناعمة. تدهورت سمعة التعليم العالى وحالة الكفاءة الإدارية وضعفت البنية التحتية للاتصالات والمواصلات وبخاصة الطرق والكبارى. لا يجادل أحد، وترامب فى المقدمة، حول تحميل النظام السياسى القائم مسئولية هذا التدهور. بل ويتحمل أيضا مسئولة تراجع الثقة العامة فى الحكومة الأمريكية ممثلة فى الكونجرس والرئاسة وأجهزة الإدارة. لا غرابة فى أن يكون فى موقع القيادة والتفكير فى البيت الأبيض من يطالب بتدمير الدولة الأمريكية وإعادة بنائها. تطرف لا شك فيه ولا داعى حقيقى له، ولكن حين يصدر بأعلى صوت وإصرار من شخص على مستوى ستيفن بانون كبير الاستراتيجيين فى الرئاسة يصبح من واجبنا الانتباه إلى الخيارات القليلة المتاحة أمام دونالد ترامب وجماعته.
***
يبدو لى أن انسحاب أمريكا من الشرق الأوسط مسألة منتهية وأن النقاش حول فرص واحتمالات العودة غير مجد. لم يكن الانسحاب قرار ترامب بل قرار باراك أوباما، وبمعنى آخر كان القرار من تفكير وتخطيط المؤسسة العسكرية تدعمها المؤسسة الاستخباراتية. الانسحاب من الشرق الأوسط يجب أن ينظر إليه من زاويتين، زاوية الانسحاب العام من التزامات عسكرية خارجية لأسباب ليس أقلها شأنا الأوضاع المتردية للنظام الأمريكى، كما أسلفت فى السطور السابقة. الزاوية الأخرى تتعلق بالشرق الأوسط لذاته وأقصد به شبكة النزاعات المعقدة والغيوم الكثيفة التى تملأ أجواء جميع العواصم العربية، وأخيرا العلاقة مع الاتحاد الروسى، وهى علاقة أخذت أشكالا غير مألوفة فى عهد باراك أوباما واستمرت فى عهد دونالد ترامب. المؤكد أن عهد ترامب سوف يتعرض لارتباكات عديدة من أهمها السياسات المتعلقة بالإسلام والمسلمين، فجماعة ترامب تضم أشخاصا كارهين للإسلام كدين وبعضم يحمل عداء عنصريا للمسلمين، هؤلاء تدربوا فى فصول المحافظين الجدد وتفوقوا عليهم فى كره المسلمين ووجدوا ضالتهم فى شخص ترامب.
ليس سرا أن دولا عديدة لم تعد تثق فى استمرار اعتمادها على أمريكا. المدهش أنه رغم الخطابات التطمينية التى ألقاها مبعوثو ترامب فى مؤتمر ميونيخ للأمن خرج المؤتمرون بانطباع يقضى بضرورة التفكير فى بدائل لأمريكا فى الأجل القصير لقيادة دفاعات أوروبا وآسيا والخليج فى وجوه روسيا والصين وإيران على التوالى.
***
وضع مركز بريطانى مشهود له بالموضوعية العلمية الممكنة تقريرا مطولا عن دور أمريكا الدولى فى عهد ترامب خرجت من قراءته بخلاصات أهمها ثلاث. انتهت الاستثنائية الأمريكية التى شهدت ولادة الحلم الأمريكى وكانت الأساس الذى قامت عليه الإمبريالية الأمريكية على امتداد قرن ونصف. انتهى دور أمريكا كنموذج يحتذى فى بناء الديمقراطية واحترام الحريات والتمسك بروح التسامح ودعم مبادئ التعددية وتعايش الأعراق والديانات والأجناس تحت سقف أمة واحدة. انتهى الشعور التلقائى لدى بعض الحليفة لأمريكا بالاطمئنان إلى أمريكا الحامية والقائد.
***
لم أقرأ أن دولة عظمى تدهور حالها وانكمش نفوذها وتهتك نسيجها الاجتماعى وتفسخت وحدة قيادتها السياسية والإدارية ثم عادت قوة عظمى. التحدى أكبر وأخطر مما كنا نعتقد.