التمكين الإلهي
بشير عبد الفتاح
آخر تحديث:
الإثنين 1 أبريل 2024 - 7:10 م
بتوقيت القاهرة
فى غير موضع قرآنى كريم، أورد المولى، عز وجل، مصطلح «التمكين». وفى تأويله، تذهب جمهرة المفسرين إلى أن المقصود منه؛ استخلاف الحق، تبارك وتعالى، فى أرضه، لمن يشاء من البشر، مع المن عليهم برغد العيش، إمدادهم بأسباب الملك والسيادة، وتخويلهم الظهور على سائر الورى.
رغم محنته، مكًن البارئ، سبحانه وتعالى، لنبيه، يوسف، فى مصر؛ حيث يقول، تعالى، فى الآية الحادية والعشرين من سورة يوسف: «وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ». وفى الآية السادسة والخمسين من السورة نفسها: «وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ». وعن تمكينه نبييه داوود وسليمان، يقول، سبحانه، فى الآية السادسة عشرة، من سورة النمل: «وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ». وتوسلا للمزيد من فضله، دعا سليمان ربه، مثلما ورد فى الآية الخامسة والثلاثين من سورة ص: «رَبِّ اغْفِرْ لِى وَهَبْ لِى مُلْكًا لَّا يَنبَغِى لِأَحَدٍ مِّن بَعْدِى إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ». كذلك، مكًن الله لعبده الصالح، ذى القرنين. إذ يقول تعالى فى الآية الرابعة والثمانين من سورة الكهف: «إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِى الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا». وفى الآية الخامسة والتسعين من ذات السورة: «قَالَ مَا مَكَّنِّى فِيهِ رَبِّى خَيْرٌ فَأَعِينُونِى بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا».
مكًن الله حبيبه محمدًا، صلى الله عليه وسلم، وأتباعه من المسلمين. ففى الآية السادسة والعشرين من سورة الأنفال: «وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِى الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ». وعنها يقول المفسرون: «إن المسلمين كانوا قليلى العدد، يستضعفهم غيرهم، حتى إذا خرجوا من موطنهم، كانوا يخافون أن يتخطفهم المشركون. لكن الله أسبغ عليهم نعمته، فآواهم، بنقلهم إلى المدينة، ليأمنوا شرور كفار قريش. ثم منحهم النصر يوم بدر، وأغدق عليهم بالفتوحات، وأحل لهم الغنائم، التى كانت محرمة على الأمم السابقة».
يرتهن تمكين الله عباده فى الأرض، بإقامتهم شروط الاستخلاف، وأخذهم بأسباب التأييد، التى تتمثل فى: اتباع المنهج الإلهى. تحقيق الإيمان الكامل، المشتمل على توحيد الألوهيّة، توحيد الربوبيّة، توحيد الأسماء والصّفات، تطبيق الإيمان فى المعاملات. نبذ الشرك عبر توسل العبودية الخالصة لله وحده، والخضوع التام لجلاله، والامتثال لأوامره واجتناب نواهيه. ابتغاء الاستقامة، التى تتجلى فى أمرين اثنين: أولهما، المداومة على كل صنوف الطاعات والعبادات؛ كإقامة الصلاة، إيتاء الزكاة، ، الصيام، الحج، بر الوالدين، وغيرها من الأعمال الصالحة. وثانيهما، الابتعاد عن المنكرات؛ وذلك عن طريق التزام تقوى الله، فى السر والعلن، واجتناب كل ما حرم من المعاصى والموبقات.
يقول، سبحانه وتعالى، فى الآية السابعة والتسعين من سورة النحل: «من عمل صالحًا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياةً طيبةً ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون». ويقول الخالق، تقدست أسماؤه، فى الآية الحادية والأربعين من سورة الحج: «الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِى الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ». وفى تفسيرها، يقول الإمام الطبرى: إن وطنا لرسول الله محمد، صلى الله عليه وسلم، وأصحابه فى الأرض، فنصرناهم على أعدائهم وقهروا مشركى مكة. وأطاعوا الله، فأقاموا الصلاة بحدودها، آتوا الزكاة، أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، دعوا الناس إلى توحيد الله، العمل بطاعته ونبذ الشرك به. وقد نقل عن ثالث الخلفاء الراشدين، عثمان بن عفان، رضى الله عنه، قوله: «فينا نزلت هذه الآية. فلقد أٌخرجنا من ديارنا بغير حق، إلا أن قلنا «ربنا الله». ثم مٌكنا فى الأرض، فأقمنا الصلاة، آتينا الزكاة، أمرنا بالمعروف ونهينا عن المنكر». وتتلاقى هذه الآية الكريمة مع نظيرتها الخامسة والخمسين من سورة النور: «وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم فى الأرض كما استخلف الذين من قبلهم».
تفضل، المولى عز وجل، على أمة نبيه محمد، صلى الله عليه وسلم، بأن أهلها لتكون خير أمة أخرجت للناس. بحيث تغدو الأمة الصالحة، التى تقود الورى بالعدل والخير، صوب إعلاء مكانتهم وسمو شأنهم. غير أن الحق، تبارك وتعالى، قد ربط ذلك الفضل والتمكين لتلك الأمة، بتمسكها بدينها، وحملها راية التوحيد والإيمان، دعوة بالخير والحق، أمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر، وإقامة للدين، وحراسة لحدوده، وذودا عن حماه. حيث قال، تعالى، فى الآية العاشرة بعد المائة من سورة آل عمران: «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّه». وفى الآية الخامسة والخمسين من سورة النور: «وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِى ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚيَعْبُدُونَنِى لَا يُشْرِكُونَ بِى شَيْئًا ۚ». والمعنى: ليورثنهم الله أرض المشركين من العرب والعجم، لينعموا بخيراتها ويصيروا سادتها؛ ثم ليوطئنّ لهم دينهم، الذى ارتضاه لهم.
وفى تأويلهم قوله، تعالى: «الذين من قبلهم، يشير المفسرون إلى ما منَ به الخالق، جل شأنه، على بنى إسرائيل فى غابر الأزمان. حيث أهلك لهم الجبابرة بأرض الشأم، أسكنهم إياها وجعلهم فيها ملوكًا وأعزة. إذ يقول، تعالى، فى الآيتين الخامسة والسادسة من سورة القصص: «وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِى الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِى الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ». والمعنى: أنه، سبحانه، قد تفضل على بنى إسرائيل من أتباع نبيه موسى، وأمدهم بالقدرة؛ ووطأ لهم فى أرض مصر، ومنحهم الغلبة على عدوهم، من غير مُنازع.
يستبقى المولى، جل فى علاه، تمكينه للأمم حينما تلتزم بمقتضيات وأسباب ذلك التمكين. ومن ثم، قد يسلبها إياه، حالة جحودها النعمة واستخدامها فى غير مرضاة المٌعطى الوهاب. ففى استنكار صريح لضلال، عاد قوم، هود، جراء انحرافهم عن جادّة الحق، رغم مظاهر التمكين المتعددة، التى وهبهم الله إياها؛ يقول، تعالى، فى الآية الثامنة والعشرين بعد المائة من سورة الشعراء: «فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ. وَاتَّقُوا الَّذِى أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ. أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ. وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ». والأمر ذاته مع، ثمود قوم صالح، فى الآية السادسة والأربعين بعد المائة من ذات السورة: «أَتُتْرَكُونَ فِى مَا هَاهُنَا آمِنِينَ. فِى جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ. وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ». وفى الآية السادسة من سورة الفجر: «أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ. إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ. الَّتِى لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِى الْبِلَادِ. وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ. وَفِرْعَوْنَ ذِى الْأَوْتَادِ. الَّذِينَ طَغَوْا فِى الْبِلَادِ.فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ». وفى الآية السادسة من سورة الأنعام: «أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِى الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِين». ومثلها فى الآية السادسة والعشرين من سورة الأحقاف: وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ».