سحر الإذاعة فى رمضان.. زمان!
إيهاب الملاح
آخر تحديث:
الجمعة 1 يونيو 2018 - 10:15 م
بتوقيت القاهرة
ولم يكن رمضان له طعم أو مذاق بدون حضور الراديو، فى توقيتات بعينها، ومحطات بذاتها، وبرامج يخيل إلى أنها اكتسبت طابع الخلود من حضورها المتجدد (مثلا، برنامج «مع الذاكرين» الذى يذاع قبل الفجر على محطة البرنامج العام طيلة السنة، لكنه يكتسب حضورا خاصا فى رمضان).
صحيح أننى من مواليد أواخر السبعينيات الذين تفتحت عيونهم على التليفزيون الذى اكتسح كل وسيلة أخرى فى طريقه، وتسيد المشهد، وصار هو المنصة الإعلامية الأولى بلا منازع، لكن رغم ذلك ظل الراديو له حضوره الخاص، وبداخلنا نحمل له حنينا راسخا لا يتبدد، فلم تكن سنوات بعيدة مرت على تحلق الملايين حول هذا الجهاز السحرى العجيب لسماع الست أم كلثوم فى حفلة الخميس الأخير من كل شهر.
ولم يكن فى مقدور الملايين أن ينسوا أبدا ذلك الخيال البكر المدهش الذى كان يناوشهم ويدغدغ خلايا النشوة الجمالية والمتعة الفنية الرائقة وهم يستمعون إلى صوت زوزو نبيل المثير وهى تؤدى دور «شهرزاد»، ولا صوت الكبير القدير عبدالرحيم الزرقانى فى دور «شهريار» فى أبدع ما قدمته الإذاعة المصرية فى سنوات مجدها الزاهر (ألف ليلة وليلة) التى كان يكتبها طاهر أبوفاشا ويخرجها محمد محمود شعبان (بابا شارو).
قبل ظهور الراديو عام 1934 فى مصر، كانت الوسيلة الترفيهية الأولى ومصدر التسلية والمتعة الوحيدة لعموم الناس هى القصص والحكايات والسير التى كان يلقيها ويؤديها من كان يُعرف فى ذلك الزمان باسم «الراوى»، أو «الحكواتى»، أو «القصاص»؛ ذلك الفنان الشعبى المبدع الذى كانت تشهده المجتمعات المصرية فى كل الأحياء الشعبية وفى أغلب قرى الريف المصرى وفى أقاصى الصعيد، وكان يفتتح إبداعه الشفاهى المبتكر بالجملة المشهورة «كان يا ما كان يا سعد يا إكرام»، أو يختتم ليلته السردية المبدعة بـ«وهذا ما كان يا سادة يا كرام.. صلوا على الرسول».
كان الناس يستمعون لهذا الذى يروى القصص والسير «فى خشوع العابد وسكون العاشق ولهفة الطفل إلى القصاص، وقد طوفت به أشباح القرون، وغمغمت فى صوته أصداء الزمن»، وكان ذلك القصاص الشعبى «الحكواتى» أو راوى تلك السير «يتربعُ فى صدر المكان منصة عالية من الخشب العتيق، وهو فى سمته وهندامه، ولهجة كلامه وطريقة سلامه نموذج العامى الأديب ومثال الحضرى المثقف.. حفظ كثيرا من الأشعار فاكتسب ظرف الأدب، وروى صدرا من الأمثال فاكتسى وقار الحكمة، ووعى طائفة من الأخبار فاتسم برقة المنادمة. وهو إلى ذلك بارع النادرة، دقيق الفطنة، عذب المفاكهة، حاضر الجواب، يؤدى إلى هذا الجمهور الغرير الساذج دعوة الواعظ وأمانة المعلم ورسالة الأديب».
حضور هذا القصاص أو الراوى الشعبى لم يكن له مثيل وكان يستحوذ على قلوب وعقول مستمعيه بما يرويه من قصص شعبى وسير لأبطال شعبيين؛ مثل أبى زيد الهلالى، وعنترة العبسى، والظاهر بيبرس، وحمزة البهلوان وعلى الزيبق..
هذه اللوحة البديعة لهذا النمط من الحياة الاجتماعية والممارسة الثقافية رسمها لنا وحفظ ملامحها ووثق مفرداتها وعلاماتها الراحل أحمد حسن الزيات صاحب مجلة الرسالة (1934 ــ 1954) أشهر وأهم مجلة ثقافية ظهرت فى مصر والعالم العربى فى النصف الأول من القرن العشرين.
وحينما ظهر الراديو واستحوذ على قلوب وألباب الناس، فقدوا شغفهم بالراوى الشعبى وأزاحت المواد المقدمة عبر الأثير هذا القصاص الحكواتى عن مكانته الاجتماعية وحضوره الثقافى إلى الأبد! ولم يعد لهذه الظاهرة من وجود إلا فى أرشيفات الموروث الشعبى وصفحات تاريخ الأدب.
حل «الراديو» محل «الحكواتى»، وأخذ بألباب الناس وأفئدتهم، وملك عليهم أمرهم، ومن هنا أعلن الزيات بكل حسرة «لقد هزم هذا «الراديو» ذلك «الحكواتى» فى كل قهوة كما هزمت الآلة الإنسان فى كل عمل. ففى كل قهوة من هذه القهوات (البلدية) آلة من هذا الاختراع العجيب تغرى الأذواق العامية بالفن، وتروض الآذان العصية على الموسيقى، وتنبه العقول الغافلة إلى العلم، وتحبب النفوس المستهترة فى الأدب. فهى تقرأ القرآن وترسل الألحان وتذيع العلم وتشيع اللهو وتنشر البهجة!».
وخلال الفترة (1934 ــ 1960) أى ما يزيد على ربع القرن احتل الراديو المكانة ذاتها التى كان يحتلها الراوى الشعبى أو «الحكواتى»، لكن بتأثيرات أعمق وعلى نطاق أوسع ولم يعد التأثير محدودا بحدود العشرات أو حتى المئات الذين كانوا يتحلقون حول منصة الراوى أو القصاص فى المقاهى والموالد والمناسبات الدينية (وبالأخص ليالى رمضان العامرة). جاء الراديو ليصل إلى مئات الألوف وفى غضون سنوات قليلة من انطلاقه صار يصل إلى الملايين (بدون أدنى مبالغة) وصار يمارس سطوته الجمالية وحضوره المعرفى ومهامه الإعلامية والتثقيفية والتنويرية لأكثر من ثلاثة عقود متصلة، قبل أن يظهر التليفزيون ويطيح به من على عرشه.
ولقصة الراديو فى رمضان وسحره قصص وحكايات لم تروَ بعد.. وسبحان من له الدوام!