على (صعيد) آخر
سيد محمود
آخر تحديث:
الثلاثاء 1 يونيو 2021 - 8:25 م
بتوقيت القاهرة
ولدت قاهريا لكن أبى أصر على أن يربط بيننا وبين جذور العائلة فى صعيد مصر وفى بعض الاوقات يسخر الاصدقاء منى ويقولون انت (صعيدى) بنظام الانتساب وليس الانتظام وأدافع عن نفسى بالقول انى كنت أذهب إلى هناك كل صيف وابقى مع اخوتى حتى يحل موعد الدراسة فنعود لنلتحق بمدارسنا ولم نتحرر من هذا الطقس الا وانا فى المرحلة الثانوية حين امتلكت الحق فى إبداء رأيى، ولم يعد أبى يتشدد فى إصراره على ان نذهب إلى هناك.
ولا أزال اذكر طقوس الزيارة التى كانت تبدأ بالذهاب إلى مخزن القطار فى احمد حلمى قبل موعد السفر بثلاث ساعات على الأقل ليتمكن من حجز مقاعدنا قبل أن يدخل القطار إلى محطة مصر، ويبدأ الركاب فى التزاحم على ما تبقى من مقاعد
كان الوجود فى مخازن القطار مغامرة لم تكن خالية ابدا من تحايلات على العمال الذين اعتادوا على هذه الامور ويقبلون بها دعما لعائلات بسيطة يريد عوائلها ان يحجزوا لافرادها مقاعد مريحة فى قطار الدرجتين الثانية أو الثالثة.
كنت افرح بالمخزن والقفز من أبواب القطارات والسلالم المرتفعة التى لا تظهر من ارصفة المحطات. ولم أشعر فى العادة بملل الانتظار، لأنى فى كل مرة كنت اتوقع ان اشارك ابطال فيلم (باب الحديد) مشاهدهم الأسطورية.
ملأت رحلة القطار الطويلة من القاهرة حتى قنا رأسى بمشاهد من الصعب محوها من الذاكرة، أهم ما فيها ترسيخ صورة خالدة عن بؤس الصعيد وأهله الذين يقطعون كل تلك المسافات الطويلة فى قطارات بائسة لم تكن خالية من الحيوية ومشاهد الفانتازيا التى جعلت من خط الصعيد كله موضوعا غرائبيا. وكنت أعجب من أبى الذى يفرق بين الركاب من اللهجات ويعرف من فيهم من اسيوط ومن من قنا او سوهاج واذا خانته اللهجة يعرف من طريقة لف العمامة، وقد ورثت عنه هذه الصفة وأستطيع وحدى ان اميز أهل قنا من وضعية العمامة.
وجرت العادة أن أبقى بعد وصولى ليومين على الاقل فى حالة صمت وعزوف عن المشاركة فى أى طقس عائلى على سبيل الاحتجاج ولكى تصل رسالة لابى حتى لا يكرر إلحاحه بالعودة إلى الجذور وقد تفهم ابى الرسالة رغم استمتاعى التام بالمائة يوم التى كنت أقضيها صعيديا رغم رفضى ارتداء الجلاليب واصرارى على ارتداء البيجاما او الفانلة والشورت والحذاء بدلا من المشى حافيا وبسبب ذلك تعرضت لصور من التنمر والسخرية لانى من (مصر) واتحدث بلغة غريبة شبيهة بلغة المسلسلات
وأحيانا كان الأطفال والكبار يسألوننى لو كنت ارى عادل إمام ونور الشريف ونادية الجندى ونبيلة عبيد فى شارعنا
كنت انظر بغرابة شديدة للصعايدة الذين امتلأت بيوتهم بسلع معمرة لم تكن فى بيتنا بالقاهرة وهى مفارقة كانت أعقد من إدراكى عند أوائل الثمانينيات.
حقيقة لم اكن افهم كيف تخلو معظم البيوت من الرجال الذين سافروا املا فى حياة ايسر، وتمتلئ بالاجهزة الكهربائية والالكترونية التى يقوم على تشغيلها العجائز والنساء والأطفال الذين كانوا لا يعرفون ملامح ابائهم الا من الصور
ولا يتمكنون من تمييز اصواتهم لانها كانت تأتى محمولة عبر شرائط الكاسيت، وكانت مليئة بشفرات تفهمها النساء فقط، فعلى عكس ما هو شائع تلعب السيدات فى الصعيد أدوارا أكبر بكثير من الأدوار التى يلعبها الرجال وتكاد كل سيدة ان تكون مثل فاطمة تعلبة بطلة رواية (الوتد) لخيرى شلبى او هى فاطنة احمد الغفار زوجة حراجى الجط فى ديوان عبدالرحمن الأبنودى الشهير التى اتخذت القرار بأن يذهب عيد الابن إلى الكتاب ليتعلم هو وشقيقته عزيزة. وبهذا المعنى كان الصعيد رغم مشكلات تقدميا وكانت فاطنة تمثل طليعة تولت تغيير الصعيد بالكامل.
وفى النسخة الجديدة التى رأيتها، يحتفظ الرجال بأدوارهم التقليدية بعد ان تراجعت فكرة السفر إلى الخليج وتراجعت كذلك صور التمييز على اساس النوع وصارت الفتيات اكثر حظا فى التعليم والخروج ولم تعد شوارع القرى تختلف عن شوارع احياء الطبقة المتوسطة فى القاهرة.
رغم مظاهر الحرمان والتهميش الثقافى نجح الانترنت ومعه الفضائيات فى علاج المسافة بين العالمين ولم تعد هناك غرائبية واصبح التراث والفلكلور موضوعا للاستهلاك وليس طقسا موروثا للعيش. يسهر الصعايدة مثل سكان القاهرة لما بعد الفجر ويقضون امسياتهم يسمعون اغانى المهرحانات ويحدث احيانا ان تعاد صياغة الكلمات والموسيقى وتطعم بنكهة صعيدية او عملية صهر تقوم على اشكال المحاكاة الساخرة من التنميط الذى تعمل الدراما ومقولات المثقفين على تثبيتها ولك ان تعلم ان اكثر الاغنيات التى يمكن الاستماع لها رحلات التوك توك المكوكية فى دروب القرى هى لمطرب يسخر من مسلسلات ملوك الجدعنة ونسل الاغراب معلنا انحيازه التام لزمن (ذئاب الجبل).