كتاب مدهش وتاريخ لم يقرأ

سيد محمود
سيد محمود

آخر تحديث: الثلاثاء 1 يوليه 2025 - 11:36 م بتوقيت القاهرة

أدين للصديق الإعلامى عمرو خفاجى، رئيس تحرير الشروق السابق، بأشياء كثيرة آخرها لفت نظرى إلى كتاب مهم لم يكن ليثير اهتمامى بسبب عنوانه الذى يبدو غريبًا على القارئ المعاصر، وهو (السياسة الأمينة بأخبار من سكن المدينة).

وزاد من شغفى أن الكتاب ذاته بدا بعيدًا عن الإنتاج العلمى السابق لمؤلفته الدكتورة زينب أبوالمجد، وهى أستاذة مصرية للتاريخ فى جامعة أوبرلين الأمريكية، درست فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بالقاهرة ثم حصلت على الدكتوراه من جامعة كاليفورنيا فى موضوع أقرب للتاريخ الحديث وليس التاريخ الإسلامى الذى ذهبت إليه فى كتابها الأحدث وهو موضوع هذا المقال.

قبل هذا الكتاب تُرجم كتابها «إمبراطوريات متخيلة - تاريخ الثورة فى صعيد مصر»، إلى العربية عن طريق المركز القومى للترجمة بحماس من الصديق أحمد زكى عثمان، الخبير الإعلامى فى الصليب الأحمر، وضم رسالتها إلى الدكتوراه وآثار اهتمامًا كبيرًا من قبل المهتمين بتاريخ الصعيد، لأنه يغطى حوالى 500 سنة من تاريخه وينبش فى حوادث مجهولة.

غير أن كتابها الجديد الصادر عن دار المرايا فى مصر يعالج موضوعًا يندر أن تجد كتابًا حوله فى مصر، وهذا الموضوع هو قصة قبر الرسول عليه الصلاة والسلام فى مسجده بالمدينة المنورة وعلاقته بتاريخ المسلمين من زواية وثيقة الصلة بتاريخ النساء وحركة التطور العمرانى وما يسمى بالعمران البشرى أو ما يسمى الآن بالهندسة الاجتماعية أيضًا.

كم كان مثيرًا ما روته مؤلفة الكتاب من أنها تفرغت للبحث فى كل ما يخص المقبرة طوال ٣ سنوات، بسبب شغفها بمحاضرة قدمها أحد الناشطين السعوديين عبر الإنترنت كشف فيها عن مؤرخ كانت تسمع باسمه للمرة الأولى، وهو نور الدين السمهودى، الذى يعد من أوائل من كتبوا عن تاريخ وعمارة المدينة المنورة.

تتبعت أبوالمجد بدأب حقيقى سيرة الرجل وما كتب حوله واكتشفت من خلاله أن قبر الرسول (ص) لم يفتح بعد وفاته سوى مرة واحدة، وقد ظل مغلقا طوال ٨٠٠ عام، ولم يفتح إلا فى ٨٨١ هجرية و١٤٧٦ ميلادية بأمر من السلطان الأشرف قايتباى الذى اتخذ قرارًا ثوريًا بترميم القبر الذى أُغلق بعدها.

يكشف الكتاب تفاصيل عملية الترميم التى جرت عبر معمارى مصرى له اسم غامض وغريب يماثل أبطال ألف ليلة وليلة وهو شمس الدين بن الزمن.

ومن اللافت -أيضا- أن قرار الهدم كان أمرًا سلطانيًا أرسل من القاهرة معززا بالمهندسين والعمال لتنفيذه، وقد وجد -أيضًا- مقاومة ورفض شديدين من علماء المدينة إلا أن قايتباى عد قراره مسألة لا رجعة فيها التزامًا بمسؤليته تجاه دينه قبل أى أمر آخر.

سجل السمهودى ما راه فى كتابه (وفا الوفا بأخبار دار المصطفى)، وحاولت زينب أبوالمجد تقليده وكتبت عنوانا ينتمى إلى نفس النسيج انسجامًا مع ما جمعته من مادة.

ربما يعلم البعض أن الغرفة التى بناها الرسول الكريم لكى تكون بيتا للسيدة عائشة أصبحت ضريحًا ضم رفاته فيما بعد.

ومن خلال المادة التاريخية التى جمعتها من مصادر تراثية خالصة قدمت رواية مغايرة لأدوار النساء فى فترات شائكة خلال سنوات الخلفاء الراشدين وبالذات فى الفتنة الكبرى.

يقول الكتاب ببساطة إن النساء لم يكن بعيدات عن المشهد بل على العكس كن فاعلات تماما بما يدحض الرؤى التى تصور المجتمعات الإسلامية كمجتعات راكدة.

وتظهر مساحات إنسانية مطمورة تخص صور التنافس أو الغيرة وطبيعة الحياة بين النساء داخل مجتمع المدينة وتحررها من الصور المعتادة.

وتكشف أبو المجد من جديد الأدوات التى استعملها الرسول الكريم لتثبيت دعائم دولته وصورته كنبيّ وحاكم سياسى يقود دولة ناشئة لها رسالة عالمية كما تبرز جانبًا مجهولًا لم يسلط عليه الضوء بشكل كافٍ، وهو الجهود المبكرة لحركة التخطيط العمرانى فى المدينة عقب هجرة الرسول.

كما قدمت المؤلفة مقاربات فى منتهى الجدية حول موضوعات شائكة بنت سرديات مغايرة وبديلة حول نساء النبى ووضعية النساء فى المسجد، وكيف تطورت وظيفته داخل الحضارة الإسلامية.

أهم ما فى دراسة أبوالمجد أنها جاءت عبر تعامل مباشر مع مادة أرشيفية وتراثية لم تسقط عليها أية رؤى حديثة محملة بعبء الإيديولوجية رغم الاستفادة من دراسات معاصرة حول الجندر أو النوع الاجتماعى أو دراسات تاريخ النساء أو دراسات التاريخ البديل كما اطلعت على ما قدمته باحثات بارزات سبقن إلى تناول نفس القضايا منهن أميمة أبوبكر وفاطمة المرنيسى أو هدى الصدة وألفة يوسف وأخريات فاعلات فى مجموعات بحثية معروفة أحدثها حركة مساواة فى ماليزيا والتى تُرجم عن أعمالها كتاب مهم نشرته الكتب خان بعنوان (العدل والإحسان) وضم أبحاثًا مهمة لملكى الشرمانى وسارة مارسو وزينة أنور وأخريات.

وبحكم قاطع، فإن الكتاب الفريد فى مادته الشيقة الخالية من التعقيد يعمل على اكتشاف المدونات التراثية وانطلاقا منها يقوم بخلخلة صور الهيمنة الذكورية من داخل كتب التراث والأحاديث وكتب السيرة النبوية والتفاسير وتبنى المؤلفة منها كولاجًا فريدًا حول تاريخ الإسلام تقاوم عمليات تنميطه سواء جرت من داخل المجتمعات الإسلامية أو من خارجها.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved