جدلية الشخصية العربية وحداثتها
علي محمد فخرو
آخر تحديث:
الأربعاء 1 أغسطس 2018 - 9:10 م
بتوقيت القاهرة
هناك محاولات متنامية، استعمارية وصهيونية، استخباراتية وإعلامية واستشراقية فكرية، لسلخ الإنسان العربى عن هويته العروبية.
فمنذ السقوط المأساوى للتجربة الناصرية، بعد موت قائدها التاريخى وملهمها، ومع تراجع المد القومى بسبب ضعف وتبعثر وصراعات الأحزاب والحركات القومية الأخرى، تنامت ظواهر الهجوم على الهوية من قبل الخارج وبعض قوى وأفراد الداخل.
ولذا أصبح لزاما إعادة استحضار مكونات ومنهجيات تلك الهوية، لإعادة، على الأخص، التوازن فى ذهن شباب هذه الأمة. وإذا كان من نقد ومحاولة تجاوز فليكن ذاتيا موضوعيا، وليس تقليدا أو صدى لما يقوله الآخرون، كما تفعل بعض الخطابات العربية الشاذة، المعبرة عن غضب طفولى مجنون عند هذا الفرد أو عند تلك الجماعة.
من الضرورى أن يدرك شباب الأمة أن هوية الشخصية العربية هى، إلى حد كبير، هوية تاريخية شكلتها، من جهة أولى، نصوص ورؤى وقراءات دينية، ومن جهة أخرى شكلها تراث حضارى فى الفكر والفنون واللغة والقيم والسلوك عبر عدة قرون.
وبالطبع فنحن هنا نتحدث عن «الأنا الجمعية» المشتركة والسائدة بين أفراد الأمة، مع علمنا التام بأن مقدار تواجد مكونات الهوية الجمعية التاريخية يختلف من شخص إلى شخص آخر.
كما أننا يجب ألا نغفل عن جانبين من جوانب الموضوع: أولهما هو أن كل حقبة من الزمن تطرح أسئلة جديدة على التاريخ وتستنطقه ليجيب عن تلك الأسئلة المتجددة دوما.. وثانيهما هو أن الشخصية التاريخية تتجدد وتتغير، تقوى وتضعف، تصعد وتهبط فى ألقها.
ما نقوله لا ينطبق فقط على الشخصية العربية، إذ إن شخصيات كل الأمم هى نتاج مركب لأهم العوامل المؤثرة فى تاريخها، وهى على الأخص عوامل الدين والثقافة والأحداث الكبرى التى فجرتها وضبطت إيقاعها عوامل السياسة والاقتصاد والاجتماع.
ولذلك فليس صحيحا بأن العرب ينفردون من دون غيرهم، بطرح الأسئلة حول الشخصية الجمعية وهويتها، إذ إن جميع الأمم معنية دوما، بصور شتى، بطرح أسئلة متجددة حول شخصياتها الجمعية وهوياتها.
***
بالنسبة لنا، نحن العرب، تطرح الحقبة الزمنية التى نعيشها أسئلة محددة، أسئلة تعنينا كأمة تحاول إيجاد طريق ومكان لها فى المسيرة الإنسانية. هذه الأسئلة يجب أن يعيها شباب أمة العرب وألا يهدأ لهم بال حتى يحصلوا على إجابات معقولة، لا تدمر شخصية أمتهم الجمعية، وذلك من خلال تشويه هويتهم تلك الشخصية بالكذب الصهيونى والاستعمارى وبالتلفيق المجنون من قبل بعض العرب.
السؤال الأول يتعلق بمدى أهمية المراجعة المتأنية الموضوعية لكل الجوانب السلبية فى تلك العوامل الدينية والثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية التى فعلت فعلها فى تاريخهم، وبالتالى فى شخصيتهم وهويتهم.
تلك المراجعة تحتاج أن تكون تحليلية تفكيكية ونقدية، لتنتقل بعدها إلى تجاوز السلبى وحذفه أو تجديده، وإلى الإبقاء على ما يبدوا أنه إيجابى صالح لمرحلتنا الحياتية الحالية.
سيخطئ الشباب إن اعتقدوا بأن السؤال الأول لا يخصهم ولا يتطلب انخراطهم التام فى التفتيش عن الإجابة عليه. جزء كبير من التزاماتهم الثقافية يجب أن تنشغل بذلك الأمر. ذلك أن الإجابة عن السؤال الأول ستساعدهم على الإجابة عن السؤال الثانى، الملتصق أشد الالتصاق بحاضرهم ومستقبلهم.
السؤال الثانى هو مدى الترابط أو التناقض بين شخصيتهم وهويتهم تلك وبين مسلمات وادعاءات ما يعرف بالحداثة، التى بدأت كحصيلة للنهضة والأنوار الأوروبية لتنتهى اليوم بأن تصبح حداثة شبه عالمية. هنا يحتاج الشباب العرب أن يعوا تماما الملاحظات النقدية الكثيرة حول مسلمات الحداثة وتطبيقاتها الخاطئة الكثيرة عبر القرون الثلاثة الماضية.
ولعل قراءتهم لأدبيات النقد الشديد للحداثة الغربية الذى وجهته المدرسة التفكيكية، بقيادة المفكرين الفرنسيين من أمثال جاك داريدا، وأدبيات كتاب مدرسة ما بعد الحداثة الكثيرين، ستعينهم على الإجابة عن السؤال الثانى. سيعلمون عند ذاك ما الذى فى الحداثة قد يتعارض مع شخصيتهم وهويتهم، وما الذى لا يتعارض على الإطلاق. لن يكون الأمر سهلا، ولكنه غير مستحيل.
سيكتشف الشباب المقولة الخاطئة والتى تعتبر الحداثة الغربية هى المراكز الذى تدور من حول بقية الحداثات، بما فيها الحداثة العربية الذاتية، خصوصا عندما يتعرفون على ما ذكرنا من نقد كثير وتساؤلات كثيرة موجهين لتلك الحداثة.
***
هناك تساؤلات كبرى حول بعض مكونات الحداثة من مثل المدى المعقول للحرية الشخصية والاستقلالية الذاتية، أو من مثل موضوع التقدم ومعانيه وحقوله وتوجهاته، أو من مثل نوع الارتباط بين إملاءات العقلانية والتزامات القيم.
نحن هنا لا ندعوا إلى المماحكة والصراعات العبثية، وإنما ندعوا إلى الجدية والندية فى دخول عوالم الحداثة، بل وحتى عوالم ما بعد الحداثة.
ما نريده من شبابنا هو أن يصلوا بجهودهم إلى نوع تركيبة الشخصية الجمعية العربية، وبالتالى هويتها، وإلى نوع التعايش بينهما وبين تركيبة الحداثة العربية الذاتية.
ذلك جهد مطلوب وملح إن كانوا يريدون لأمتهم معاودة دخولها فى مسيرة الحضارة الإنسانية، المتناغمة والمتكاتفة الأجزاء وهم، إذ يسيرون فى مسعاهم ذاك يجب ألا يلتفتوا إلى أصوات الخبث والخديعة الصادرة من دوائر الإمبريالية والصهيونية ومن دوائر أبواقها فى أرض العرب.