أستعير عنوان هذا المقال من الكتاب الشهير الذى نشره المفكر الإسلامى المرحوم خالد محمد خالد فى سنة 1951 منددا بما كان يعامل به المصريون على عهد الملكية، فلا نصيب لهم لا فى ثروة الوطن ولا فى حكمه، وذلك على عكس ما ينشده خالد لهم فى دولة حديثة تحترم مبدأ المساواة فى الحقوق بين كل من يتمتع بجنسيتها، وتخاطبهم باعتبارهم شركاء مع حكامهم فى الوطن، فهم يجب أن يعاملوا كمواطنين وليس كرعايا.
وبعد أكثر من سبعة عقود على الثورة التى كان يفترض أن تغير هذه الأوضاع ــ والتى كان زعيمها يخاطب المصريين بنفس اللفظ الذى شدد عليه خالد، فكان يناديهم «أيها المواطنون» ــ نجد فى الممارسات الحالية للحكومة المصرية ما يوحى بأن ما كان ينتقده خالد محمد خالد فى بداية خمسينيات القرن الماضى مازال مستمرا بل وعلى نحو لا يطعن فقط فى كرامة المصريين بل فى ذكائهم وقدرتهم على فهم ما يستتر وراء التصريحات الحكومية.
والواقع أن هذا النمط فى التعامل مع المصريين ليس لائقا ليس فقط لأنهم مواطنون يتساوون فى حقوقهم المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية مع من يحكمونهم، ولكن لأن المصدر الأساسى لدخل الدولة المصرية هو ما تحصله السلطات العامة منهم لذلك فهى مطالبة بأن تشرح للمواطنين ما تتبعه من سياسات، ومدى حكمتها فى إنفاق ما توافر لها من موارد هم الذين أتاحوها لها. فلنقل إن الدولة بهذا المعنى هى شركة مساهمة، والحكومة هى مجلس إدارة هذه الشركة. من البديهى أن مجلس الإدارة مسئول أمام الجمعية العمومية للمساهمين، ولا يجب عليه فقط أن يقدم لهم تقريرا ماليا، ولكن أن يشرح لهم كذلك السياسات التى أخذ بها فى إدارة الشركة. ويحق لأغلبية المساهمين إن لم يكونوا راضين عن أسلوبه فى إدارة الشركة أن يسحبوا ثقتهم منه، وأن ينتخبوا آخرين أقدر منه على إدارة الشركة أو الوطن إذا قبلتم هذا التشبيه. وليس فيما أقول افتراء على الدولة المصرية فى الوقت الحاضر، فخطابها الرسمى هو عن الحكم الرشيد، وأهم عناصر الحكم الرشيد هى: الالتزام بحكم القانون، وصنع القرار على أساس علمى، وفيما هو أكثر التصاقا بموضوعنا هى: الشفافية وضمان المساءلة ومشاركة المواطنين فى صنع القرارات والإشراف على تنفيذها فضلا عن التكافؤ بين الفوائد الناجمة عن السياسات العامة والأعباء المترتبة عليها.
ثلاثة أمثلة:
ولكن ما الذى دعانى لتذكر خالد محمد خالد وكتابه الشهير. سأضرب لكم ثلاثة أمثلة يبين اثنان منها كيف تعاملنا حكومتنا على أننا رعايا ليس لنا حق فى أن نعرف لماذا تخرج ببساطة عن ممارسات مستقرة سابقة إلى ابتكارات لا يقوم على صحتها دليل، وتشيد بأن الأهداف المعلنة عنها ليست هى دوافعها الحقيقية، وفى مثل ثالث لا تعبأ بأن تشرح لنا أسباب الانقلاب الكبير فى سياساتها الإقليمية.
***
خذوا مثلا القانون الجديد للسكك الحديدية والذى قدم للرأى العام على أنه سيوفر الحل الناجع لمشكلات هذا المرفق الأساسى فى اقتصاد مصر ومجتمعها. بعد أن نفى رئيس الوزراء، ومعه وزير النقل، النية فى خصخصة السكك الحديدية ــ طلع علينا مشروع القانون وفيه مواد تسمح للقطاع الخاص بإنشاء وإدارة خطوط السكك الحديدية. طبعا من حيث المبدأ لا توجد هنا خصخصة كاملة لهذا المرفق، ولكن القانون هو كاشف عن نية فى بداية خصخصته. ليس هناك اعتراض على أن يقوم القطاع الخاص بإدارة عربات النوم أو بوفيهات المحطات أو حتى استغلال المحطات لأغراض تجارية. ولكن ما الذى يدور بخلد الحكومة عندما تفكر فى دخول القطاع الخاص فى مجال إنشاء وإدارة خطوط السكك الحديدية؟. لا أشكك فى قدرات القطاع الخاص فى مصر فشركاته الكبرى تنتج الحديد الصلب، وبعضها له مصانع صلب فى الخارج، وبصرف النظر عن أنها تواجه خطر الإغراق من واردات الصلب من تركيا وأوكرانيا فإنه لا توجد من بينها أو غيرها فى القطاع الخاص فى مصر شركات لها أى خبرة فى إنشاء وإدارة خطوط السكك الحديدية. ما هو هذا القطاع الخاص المقصود؟ هل تم إدخال هذا النص مجاراة لموضة شائعة ترى حل كل المشكلات فى إيكالها للقطاع الخاص علما بأن السكك الحديدية فى معظم الدول هى مرافق عامة. وباستثناء الولايات المتحدة وجزئيا كندا وأخيرا بريطانيا، فالسكك الحديدية فى الدول الأوروبية وزرت الكثير منها تديرها مرافق حكومية على أعلى درجة من الكفاءة. هل فكر هؤلاء الذين صاغوا هذا القانون فى حالة السكك الحديدة فى ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وشكاوى الرأى العام فى بريطانيا من تردى خدمة القطارات وارتفاع نفقات السفر بها بعد خصخصة خطوطها؟. أو ليس هذا المرفق واحدا يتطلب احتكار الخدمة على الأقل فى كل خط على حدة أم أننا نتصور أن تكون هناك شركات متنافسة على مدة خطوط السكك الحديدية من العاصمة مثلا إلى الإسكندرية أو إلى أسوان، فيكون للمسافر أن يختار ما إذا كان سيفضل السفر على خطوط الشركة «أ» أم الشركة «ب» ولكل منها خطوطها المستقلة؟ وهل هذا هو استخدام رشيد للموارد؟ وهل هناك مثيل لهذا الوضع فى أى من بلاد العالم؟ أم أن المقصود بالقطاع الخاص هم كبار العاملين بهيئة السكك الحديدية فى مصر وهم كما عرفنا جاءوا فى معظمهم من جهات فى الدولة لا تدير سككا حديدية، ولكنهم وجدوا مناصب مريحة لهم بعد تركهم للخدمة فى تلك الجهات، وهم الذين سيديرون الخطوط الجديدة بعد أن تنشئها هيئة السكك الحديدة بأموال المواطنين بعد تكوينهم لشركات خاصة أو يقومون بإدارة خطوط قائمة بدعوى أنهم أصبحوا فى القطاع الخاص. لا يلومنا أحد إذا كنا نطرح هذه الأسئلة لأن صياغة هذه المواد فى هذا القانون تفتح المجال للمقصود بنص لا نعرف من هو المخاطب به.
***
والمثل الثانى هو تلك القصة الشهيرة عن تولى شركة تابعة لجهة سيادية إرسال كشافين لحساب استهلاك الكهرباء فى جميع المنازل والشركات والمحلات التى تستهلك الكهرباء بدلا من صغار الموظفين الذين كانوا يقومون بهذه المهمة منذ دخلت الكهرباء ربوع مصر. هل هناك حاجة لجهة سيادية تقوم بهذا العمل؟ هناك شكوى من أن توسع أجهزة القوات المسلحة فى القيام بأنشطة اقتصادية يضيق من نطاق العمل أمام القطاع الخاص. لن ندخل فى هذا النقاش، ولكن فى هذه الحالة الجهاز السيادى المعنى ينافس الحكومة المدنية وليس القطاع الخاص، وهو ينافسه فى مهمة يقوم بها منذ أكثر من قرن ونصف من الزمان، ولم يكن فى قيامه بهذه المهمة ما يثير الشكوى باستثناء رفع رسوم الاستهلاك وتلك مسئولية القائمين على وزارة الكهرباء وليست مسئولية الكشافين. ونحن نعلم أن الهيئة تعانى عجزا فى مواردها، فهل يكون الحل فى اقتطاع جزء من هذه الموارد ولو كان ضئيلا لحساب أجهزة أخرى فى الدولة لا يدخل حساب استهلاك الكهرباء ضمن أنشطتها؟. أو لا يقلل التوسع فى مهام أى جهاز بعيدا عن مهامه الأصلية بعثرة لجهوده وابتعادا عن التركيز على هذه المهام مما يقلل بالضرورة من كفاءته فى تولى الرسالة التى أنشئ لتحقيقها. ما ذكره وزير الكهرباء ردا على هذه الاعتراضات ليس مقنعا، إذا كان عدم وجود عمالة كافية لدى هيئة الكهرباء للقيام بمهمة الكشافين هو السبب فحله بسيط فى دولة تعانى أساسا من بطالة المتعلمين. ومع ذلك كما فى الحالة السابقة، لا تراجع عن تنفيذ ما تقرر، ولنضرب رءوسنا فى الحائط فنحن فى حساب من يحكموننا مجرد رعايا ولسنا مواطنين.
***
والمثل الثالث هو التساؤل عما يكمن وراء الابتسامات الواسعة على وجهى رئيس الدولة ورئيس وزراء إسرائيل فى لقائهما الثانى، والذى جرى فى نيويورك أثناء حضورهما الدورة الثانية والسبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة، وتوجه الرئيس للفلسطينيين من على منبر الأمم المتحدة ليقبلوا بالعيش معا مع الإسرائيليين. هل المشكلة أن الفلسطينيين لا يقبلون بالعيش مع الإسرائيليين أم أن إسرائيل تحتل بمستوطناتها مساحات واسعة من الأراضى الفلسطينية التى جرى احتلالها بعد حرب يوينو 1967؟. وهل الفلسطينيون هم الذين يضيقون على الإسرائيليين داخل حدود 1967 فى معيشتهم أم أن الإسرائيليين هم الذين يضيقون عليهم فرص البقاء على أراضيهم والاستفادة من مياههم والتنقل على طرقاتهم والصلاة فى مساجدهم وكنائسهم؟ إن التضامن مع الشعب الفلسطينى فى نضاله المشروع لتحقيق مصيره وإقامة دولته وعاصمتها القدس الشريف ليس فحسب مصلحة وطنية للدولة المصرية على تعاقب حكامها حتى ولو اختلف البعض منا مع سياسات السادات ومبارك، ولكنه فى المقام الأول واجب أخلاقى وإنسانى. ولذلك يقف أصحاب الضمائر الحية فى كل أنحاء العالم مع الشعب الفلسطينى وضد الواقع الجديد الذى تخلقه إسرائيل. تتوارد الأحاديث عن صفقة كبرى وسعى مصر لتشكيل قيادة فلسطينية تكون مقبولة لإسرائيل. هل يغيب عن الساعين إلى مثل هذه الصفقة أن هناك شعب فلسطينى، أن هناك مواطنين فى مصر وهم ليسوا رعايا.
يتمنى كاتب هذا المقال، ونحن على مشارف انتخابات رئاسية قادمة، أن يتمرن حكامنا والساعون للترشح فى هذه الانتخابات، على التعامل مع المصريين كمواطنين وليس كرعايا. زمن الرعايا قد انقضى فى كثير من بقاع العالم، ولن يطول كثيرا على أرضنا.