هى والعصافير
خولة مطر
آخر تحديث:
الأحد 1 نوفمبر 2020 - 9:05 م
بتوقيت القاهرة
لا تعرف العصافير إلا التحليق بعيدا وهذا ما فعلته حينها، رحلت لأبعد سماء وتركت هذه الأرض التى انفجرت كما لم يسبق لها رغم أنها رقصت على عدد من التفجيرات التى تنوعت فى أساليبها، وأسبابها، ومرتكبيها..!!
***
العصافير ككل الطيور والحيوانات هى الأكثر وفاء والتصاقا بالأرض، هى لم تتحمل البعد الطويل فعادت ربما لتتحسس ما تبقى وتطمئن عليه أو ربما لأنها تمقت الجحود، أحد أكثر صفات البشر عدوى وانتشارا الآن، هنا وهناك!!!.. هى ترحل جماعات وليس أفرادا كلما رحلوا حملوا الشنط الجاهزة والجرح لا يزال ينزف.. لا يمكن أن نلوم أحد فالفئران تقفز من السفن الغارقة، فماذا عن البشر من حملة الشهادات والمشاعر.. لا تستطيع حتى الطيور أن تعاتبهم ولا الآخرون الباقون ربما لقلة الحيلة أو الفرص أو كليهما معا..
***
عادت الطيور.. قافلة طويلة من الأجنحة المتلاطمة ولكنها متلاصقة. جلست حيث كانت رغم أن المكان لا يشبه ذاك الذى عرفته بل لا يشبه لا نفسه ولا شىء آخر فى مختلف أرجاء الكون.. منظر الدمار يطارد حتى الأرواح البريئة التى رحلت دون ذنب، ولم يترك سوى المكان والزمان وكثير من الغموض الذى لا يزال يلف المساحات المترامية من بقايا حياة.. هنا شهادات كاملة على تلك الجريمة الأكثر غموضا فى تاريخ بلد حافل بكثير منها لا يزال قيد التكهنات والتأويلات...
***
هى، أى الطيور ككل الأحبة لا تستطيع أن تبعد عن مكان الحبيب حتى لو هو أطلال.. ألم يبكِ شعراء المعلقات عند أطلال أحبتهم؟ هذا تاريخكم يعود ليطاردكم فى أحلامكم فالكل يبكى على أطلاله، وهى ليست بكاملها حطام بل أحيانا ببعض منه..
***
اليوم كانت بكثافة هناك تجلس حيث طردها الخوف من انتشار الموت، وهى تحلق لم يكن هناك أحد سوى الفراغ والحراس والأسئلة المتراصة فوق الركام. كانت تبدو سعيدة لوفرة الطعام، قمح هو أكثر من أى طعام آخر مغمس بملح بحر وثماره. هى وجبة يحلم بها كثيرون هذه الأيام سواء هنا فى هذا المكان المنكوب أو هناك ليس بعيدا جدا حيث الطوابير هى المشهد أمام المخابز، كم شح العيش حتى أصبح الرغيف عملة صعبة كالدولار الذى يرتفع سعر صرفه وينزل حسب تصريحاتهم وتشكيلاتهم!
***
أمام هذه الصور المتراصة لطيور هنا تقتات من بقايا قمح كان سيطعم شعب، برزت صورتها قادمة من عند حافة ماء آخر ولكنه نهر وليس بحر وهى الأخرى تبدو مع حاضن يديها كعصفورين مغردين.. قالت «اعذرينى أننى أنقل مثل هذا الخبر وسط بحر من وجع متراكم حولك وكم أنا خجلى منك.. المصريون علمونى إللى تلسعه الشوربة ينفخ فى الزبادى، فكان أن أوقفت الصوت ربما خوفا من لسعة القادم».. ولكن كم نستطيع أن نقاوم رسائل أحبتنا؟ أكملت الاستماع فكان إن جاءت تلك الأخيرة وما قبلها وبعدها تحولا إلى الرسائل المنتهية الصلاحية أو الممحية.. قالت «لقد تزوجت»..
***
صرخة من الفرحة، كم يأتى الفرح مما يبدو أنه بئر عميقة بالحزن.. لم أتمالك أن أردد «أكثرى من أخبارك هذه، تعالى بفرحك وانثريه فى قلبى» فلا شىء يشبه ذاك الإحساس بالسعادة اللامتناهية لسعادة تبدو على وجوه الأحبة.. كم تتلازم المحبة والبهجة مع الحزن والنكد.. كما الليل، قد يبدو طويلا بعتمته أحيانا ولكن لا بد للنهار أن يأتى بنوره..
***
هى والعصافير حملوا بشارة الفرح أو ربما بصيص نور فى أيام تبدأ كما تنتهى بكثير من الرحيل إلى عوالم الماضى أو نبش بعضه، فالماضى كالذاكرة انتقائى جدا بإمكان بعضنا أن يركز على العتمة فيما آخرون ينبشون صناديق الذكريات عن شعاع أكبر من هنا والآن وأوسع من كل مكان سكنهم أو سكنوه.. هى والعصافير كانوا البشارة حتما التى نحتاجها أيضا لندرك أن الحياة بعض من هذا وذاك حتى لو بدت فى بعضها كثير من هذا وقليل من ذاك.. هى والعصافير كانوا البشارة.