والأمانى إرادة
محمد عبدالمنعم الشاذلي
آخر تحديث:
الأربعاء 1 نوفمبر 2023 - 8:50 م
بتوقيت القاهرة
نشرت وسائل الإعلام صورا لسلاسل الأطعمة السريعة الدولية وهى توزع وجبات على جنود الاحتلال الإسرائيلى المشاركين فى حصار غزة وفى المجازر الدائرة فى أهلها، منها سلسلة «بيتزا هت»، وسلسلة «ماكدونالدز» التى غيرت ألوان أكياسها من اللونين الأحمر والأصفر إلى اللونين الأزرق والأبيض.. ألوان علم إسرائيل. أصابت هذه الصور أصحاب النخوة العربية والمشاعر الإنسانية بالغضب والاشمئزاز وطالبوا بمقاطعة منتجاتها، فخرج علينا شرذمة من أصحاب القلوب الرحيمة والغيارى على مصالح الوطن ليعلمونا أن هذه الشركات يعمل بها آلاف من المصريين وأنها صاحبة فضل عليهم وتفتح بيوتهم، وهى سبب من الأسباب التى سخرها الله لرخاء مصر وسعادة شعبها. وهب آخرون فى ثورة عارمة على من يتجاسر بحرمانهم من الشطائر والفطائر اللذيذة، وما زلنا نذكر فنانة مشهورة أطلت علينا أثناء ثورة 2011 تشكو من حرمان الأطفال من البيتزا والريش وكأننا نحرم الأنام من الماء والهواء.
تبنى هؤلاء منطقا مشابها لمنطق الولايات المتحدة وحلفائها الذين هاجموا العرب أيام مكاتب المقاطعة العربية للمنتجات الإسرائيلية والمؤسسات الداعمة لها مؤكدين ضرورة الفصل التام بين السياسة والاقتصاد والتجارة، لكنهم نسوا هذا الشعار تماما فى علاقاتهم مع كوبا وإيران والصين وروسيا، نسى هؤلاء ما تعرضت له مصر من حصار ومقاطعة اقتصادية بسبب موقفها من إسرائيل والإمبريالية فى الستينيات من القرن الماضى، وأن شخصية مصرية كبيرة نصحت الولايات المتحدة أن الطريق الأمثل لتركيع مصر وعبدالناصر هو بحجب القمح عنها، وأن الحصار الاقتصادى مازال قائما بدعاوى حقوق الإنسان وضغوط البنك الدولى والمؤسسات المالية الدولية.
• • •
لعل نفورى من هؤلاء القوم سببه أنى عشت صباى وشبابى فى زمن مختلف، زمن التحرر والصمود والنضال، زمن الحروب، زمن أدركنا فيه أن مصر فى رباط إلى يوم الدين، وأن الصهيونية والإمبريالية العالمية لن تنسيا أن مصر قادت الحملة للتحرر فى البلاد العربية والأفريقية والآسيوية وستظل متربصة بهما، فعملنا على تأمين أنفسنا بإنتاج كل احتياجاتنا محليا بقدر المستطاع. عشنا حياة بسيطة متقشفة بعيدة عن التبذير والبذخ لدعم قدراتنا على الصمود. أذكر فى وسط أحداث اليوم أغنية شدى بها محمد عبدالوهاب من كلمات الشاعر المبدع كامل الشناوى اسمها «أغنية عربية» تقول كلماتها: «لا تسألنى أين كنا.. أين أصبحنا وكيف؟» غناها عبدالوهاب سنة 1958 احتفالا بالوحدة المصرية السورية، قام فيها بتأريخ الفرقة التى شرذمت العرب، وكيف كنا شعوبا ضعيفة محتلة ثم توحدنا وأصبحنا دولة حرة قوية بعد كفاح طويل وتضحيات الشهداء. لا يسعنى إلا أن أطرح هذه التساؤلات اليوم على من يرتعدون فرقا من كابوس حرمانهم من البيتزا والهامبورجر بعد مرور 65 عاما على أغنية عربية أين كنا وأين أصبحنا؟.
كنا نكسو أجسادنا بقطننا طويل التيلة، ننسجه فى مصانعنا، وصرنا نستورد ملابسنا من القطن قصير التيلة الصينى والهندى طالما زيناه بعلامات ماركات الملابس الاجنبية. كنا نشرب شاى الشيخ الشريب وصرنا نشرب شايا من انواع مختلفة مثل شاربى «الفايف أوكلوك تى من أولاد جون بول»، كنا نشرب القهوة المظبوطة على القهاوى وأصبحنا نشرب الكابتشينو على كافيهات سلاسل امريكية وصارت قهاوينا لا يرتادها إلا الناس البيئة.
كنا نشرب عصير القصب والعرق سوس، صرنا نشرب زجاجات المياه الغازية الاجنبية، كنا نزود بالوقود سياراتنا النصر المصنوعة فى مصر فى محطات مصر للبترول والتعاون.. صرنا نمون سياراتنا الكورية والأوروبية واليابانية فى محطات اجنبية فرحين بماركاتها الأعجمية حتى نسينا أنها تقدم لنا بترولا مستخرجا من أراضينا.
يختتم كامل الشناوى قصيدته بكلمة فى غاية البلاغة تقول: «فإذا الحلم حقيقة والأمانى إرادة» فعلا الأمانى إرادة وصلابة وتقشف وكفاح وتحمل.
نحن جيل تربى على كلام كامل الشناوى، وأحمد رامى، وعلى محمود طه، وموسيقى عبدالوهاب، ورياض السنباطى، وكمال الطويل، ولذلك وعينا حقيقة عملية غزة وأدركنا قيمتها، تعلمناها من قصيدة أخرى من نظم كامل الشناوى وشدا بها ولحنها أيضا محمد عبدالوهاب لدعم الفدائيين على قناة السويس ضد قوات الاحتلال الإنجليزى فى عام 1951، ولم يتهمهم أحد بأن عملياتهم الفدائية أدت إلى الاقتحام الفاجر لمديرية أمن الإسماعيلية بدبابات الإنجليز وقتل جنود البوليس المصرى المسلحين بأسلحة خفيفة.
قال الشناوى: «عرضك الغالى على الظالم هان.. ومضى العار إليه وإليك
أرضك الحرة غطاها الهوان.. وطغى الظلم عليها وعليك
قدم الآجال قربانا لعرضك.. واجعل العمر سياجا حول أرضك
غضبة للعرض للأرض.. لنا غضبة تبعث فينا مجدنا».
هذا هو الكلام الذى تربينا عليه والذى يجعلنا نتعاطف مع أهل غزة وندرك أن ما حدث هو غضبة للأرض وللعرض، تبعث الكرامة المهددة وندرك أن ما تفعله إسرائيل فى الأراضى المحتلة تهديد لنا ولأمننا القومى وسلامة أرضنا، أما الجيل الذى تربى على كلمات الريس بيرة وأغانى حسن شاكوش والذين لا يتصورون الحياة دون البيتزا والهامبورجر والمياه الغازية، فهم من يشككون فى نضال الشعب الفلسطينى ولا يعرفون معنى الكفاح من أجل الحرية والكرامة.
• • •
هذا يحتاج منا إلى حملة ممنهجة لتوعية جيل أصبح أصغر من شهد حربنا الأخيرة ووعاها عمره لا يقل عن 65 سنة، جيل لم يعاصر التضحيات التى قدمناها من أجل الصمود والنصر. جيل لا يذكر استنفار مصر من أجل دعم ثورة الجزائر وثورة اليمن، جيل استوطن فى عقله الباطن ثقافة الاستهلاك التى روج لها طوفان الإعلانات التى جعلته أسيرا للبيتزا والهامبورجر.
جيل اهتز وعيه بعد أن حول مؤشرات أجهزة استماعه من صوت العرب وإذاعة مصر، التى حرص العدوان الثلاثى على قصفها لدورها فى تعبئة وتوعية الشعب المصرى، إلى برامج بعض وسائل التواصل الاجتماعى. إذن تسللت إليه الـ Agnotology أو علم الجهل والتفاهة، الذى كتبت عنه سابقا فى الشروق، فصار يشهد ما يجرى من هول فى غزة ويقول بعضه «واحنا مالنا جلبوه على أنفسهم» بفعل المقاومة.
الأمر جد خطير ويحتاج إلى حملة ممنهجة يشارك فيها خبراء فى التعليم والإعلام والثقافة وخبراء فى علم النفس وعلم الاجتماع ورجال الدين فى المساجد والكنائس. حملة تهدف إلى إعادة تأكيد الثقة فى مصر وقدرتها وقوتها وتأثيرها وقيادتها عربيا وإقليميا، وأن قوتها الخشنة المتمثلة فى جيشها القوى وقوتها الناعمة المتمثلة فى قدرتها على تعبئة إمكاناتها الفنية والإعلامية والثقافية والروحانية لا تضاهيها قوة، وأن مكانتها تقاس بما قدمته وم ازالت تقدمه من تضحيات ومن شهداء.