نشر موقع Project Syndicate مقالا للكاتب هارولد جيمس، يرى فيه أننا نقترب من صراع عالمى هو الأول منذ انتهاء الحرب الباردة، إلا أن الوضع يختلف هذه المرة؛ إذ أصبح سهلا فى صراعات اليوم التهديد باستخدام السلاح النووى، ناهينا عن تعرض الدولار للعديد من الاضطرابات. دعا الكاتب فى ختام مقاله إلى تبنى مبادئ لإدارة النظام المالى الدولى، فكلما كان النظام النقدى الدولى أكثر قوة كلما كان العالم أكثر مقدرة على مواجهة انتهاكات السلام... نعرض من المقال ما يلى:رويدا رويدا، نقترب من أول صراع عالمى فى عصر ما بعد الحرب الباردة. إبان الحرب الباردة، ساعَـد اثنان من العوامل اليقينية الثابتة على الحفاظ على استقرار الأمور (على الرغم من خطورتهما)؛ الآن لم يعد لهذين العاملين وجود: توازن الرعب النووى («الدمار المتبادل المؤكد») وهيمنة الدولار الأمريكى، الذى يُــنـظَـر إليه على نطاق واسع على أنه سلاح نووى مالى.
كانت الـسِـمة الفريدة المشتركة بين هاتين الأداتين اللتين تتمتعان بقوة مادية ومالية متفجرة أن استخدام أى منهما لم يكن واردا حقا. ذلك أن استخدام أى من الخيارين كان يعنى فعليا تدمير الذات، نظرا لكل التأثيرات الارتدادية، والأضرار الجانبية، والعواقب غير المقصودة التى قد تترتب على ذلك. وعلى هذا فإن القوة الكامنة فيهما كانت تجريدية أكثر من كونها ملموسة.
الآن، تغير الموقف. فلا يخلو الأمر من صراعات مستمرة حيث قد يشعر أحد الأطراف بالإحباط إلى الحد الذى يجعله يستخدم سلاحا نوويا، كما دأب الرئيس الروسى فلاديمير بوتن على التهديد بأن يفعل منذ غزا أوكرانيا. وكان الدولار يُـسـتخدم بالفعل كسلاح بشكل كامل كوسيلة لنشر العقوبات المالية والحفاظ على الردع.
كانت المشكلات الناجمة عن هيمنة الدولار قائمة لفترة طويلة جدا. فى أواخر ستينيات القرن العشرين، تصدى رجل الاقتصاد روبرت مونديل الحائز على جائزة نوبل لمن أعلنوا انحدار الدولار فى عصره (وأغلبهم فى فرنسا)، بإطلاق تكهن غير عادى من ثلاثة أجزاء بدا بعيد الاحتمال فى ذلك الوقت. فقد توقع على وجه التحديد تفكك الاتحاد السوفيتى؛ وسعى أوروبا إلى إنشاء اتحاد نقدى؛ وبقاء الدولار باعتباره العملة الدولية الرائدة طوال حياته. وتبين أنه كان مُـحِـقا فى كل ما تكهن به.
لكن الدولار أصبح اليوم عُـرضة على نحو متزايد للاضطرابات المالية، وهو ما يتجلى بوضوح فى أسواق السندات التى تدقق فى الدين العام الأمريكى الطويل الأجل. هذه المشكلات ذات طبيعة فنية جزئيا، بطبيعة الحال؛ لكنها أيضا سياسية. ففى غياب أسباب انعدام اليقين بشأن موقف أمريكا المالى فى الأمد البعيد، ستظل الأسواق هادئة. لكن إدارة الرئيس جو بايدن نشرت استثمارات عامة ضخمة فى وقت حيث أصبح الكونجرس الأمريكى مختلا بشكل كامل، الأمر الذى يلقى بظلال من الشك على قدرة الإدارة حتى على الإبقاء على الحكومة عاملة وسداد الديون. ومن المرجح أن تكون هذه الالتزامات المالية ــ التى أفضت إلى نمو اقتصادى قوى ــ والجمود السياسى الحالى من سمات الحكم الطويلة الأمد فى الولايات المتحدة.
• • •
الدولار معرض للخطر أيضا لأن العالَـم يحاول من خلال وصل النقاط فهم استراتيجية الولايات المتحدة فى الدفاع عن أوكرانيا ضد العدوان الروسى؛ والدبلوماسية فى الشرق الأوسط، التى أخرجتها حركة حماس الآن عن مسارها؛ والجهود الرامية إلى الحفاظ على السلام فى مضيق تايوان. كما لاحظ نائب مستشار الأمن القومى الأمريكى الأسبق خوان زاراتى قبل عشر سنوات، فإن العقوبات تحقق نجاحا بالغا ضد الدول الصغيرة والمعزولة نسبيا؛ ولكن كلما كان الهدف أكبر، ازداد الضرر الذى تلحقه العقوبات بأولئك الذين يفرضونها.
يتمثل سبب آخر وراء ضعف الدولار حاليا فى الشكوك العميقة التى تساور عدد كبير من الأمريكيين الآن إزاء ما يسمى العولمة المفرطة والاعتماد المفرط على التمويل. من الواضح أن أنجوس ديتون، رجل الاقتصاد الحائز على جائزة نوبل، كانت يتحدث بلسان كثيرين عندما نشر كتابا جديدا انتقد فيه بقسوة غيره من خبراء الاقتصاد الذين ساعدوا فى تحويل العالَـم إلى مكان غير متكافئ إلى الحد الذى يستفز أعمال العنف والثورات. كما أشار ديتون إلى أن الوضع فى أمريكا اليوم يذكرنا بالتفكك الاجتماعى فى أواخر العهد السوفيتى فى روسيا.
الواقع أن الانتخابات الرئاسية المرتقبة فى الولايات المتحدة فى عام 2024 ستجمع بين كل عناصر فوضى الدولار هذه، وخاصة إذا كان الاقتصاد راكدا فى ذات الوقت. فى خضم مثل هذه الاضطرابات المالية، ربما يضيف هذا السيناريو إلى جاذبية أولئك الذين يقترحون تخلى أمريكا عن دورها القيادى والمواقف السياسية التى تبنتها بعد عام 1945. لقد أبقت إدارة بايدن فى نهاية المطاف على أغلب التعريفات الجمركية التى فُـرِضَت فى عهد ترامب، وفشلت المحادثات الأمريكية مع الاتحاد الأوروبى بشأن خفض التعريفات والتصدى لصادرات الصين من الصلب بطرق متوافقة مع منظمة التجارة العالمية. الأمر ينطوى على خطر حقيقى للغاية يتمثل فى خوض الحزبين الديمقراطى والجمهورى حملاتهما الانتخابية على وعد بالتحول بعيدا عن العولمة.
• • •
من الواضح أن المجتمع الدولى فى احتياج إلى مبادئ توجيهية أفضل لإدارة الدبلوماسية المالية أشبه بتلك التى جرى تطويرها فى وقت لاحق أثناء سباق التسلح النووى إبان الحرب الباردة. فى عام 1969، بدأت القوى العظمى العالمية تتخذ خطوات لجعل العالم أكثر أمانا عبر محادثات الحد من الأسلحة الاستراتيجية (SALT)، وهى عملية طويلة تمخضت عن معاهدات الحد من الأسلحة الاستراتيجية. ورغم أن احتواء وتقييد استخدام الأسلحة النووية لا يزال يشكل أولوية قصوى فى نظر المجتمع الدولى، فلابد وأن يُـضـاف منع التدمير الذاتى المالى إلى الأجندة.
إن وقف تحويل القنوات المالية العالمية إلى «سلاح نووى» يعنى إعادة الاتصال بموضوعات تسوية ما بعد عام 1945. فى مؤتمر بريتون وودز ومؤتمر الأمم المتحدة فى سان فرانسيسكو، كان الاقتصاد والأمن وجهين لعملة واحدة. لكن العلاقة الوثيقة بين الأمم المتحدة ومؤسسات بريتون وودز (صندوق النقد الدولى والبنك الدولى) كانت معيبة. كان أكبر خمسة مساهمين فى المؤسسات المالية الدولية هم أيضا الأعضاء الخمسة الدائمين فى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. لكن قوة سلطة النقض التى يمتلكها الأعضاء الدائمون دمرت فعالية تلك الهيئة، والآن تسربت روح سلطة النقض إلى مؤسسات بريتون وودز عبر قواعد التصويت بالأغلبية المطلقة.
بالاستعانة بإجراءات أبسط لاتخاذ القرار على أساس الأغلبية، يصبح من الممكن تأسيس عملية قضائية للتعامل مع العقوبات المالية وفرضها ــ بما فى ذلك مصادرة الأصول ــ على دول مثل روسيا. ومن الممكن أن تسير محادثات الحد من الأسلحة النقدية على خُـطى محادثات الحد من الأسلحة الاستراتيجية، ليتوج الأمر فى النهاية بمعاهدة الحد من الأسلحة النقدية.
يجب أن يكون هذا أولوية قصوى. ذلك أن النظام النقدى الدولى الأكثر قوة من شأنه أن يعمل على توليد قدر أعظم من الأمان من خلال خلق قدرة عالمية أقوى للوقاية من انتهاكات السلام ووقف الزيادة المثيرة للقلق التى طرأت على تواتر هذه الانتهاكات.
النص الأصلى: