فرنسا الملزمة باعتقال نتنياهو!
مواقع عربية
آخر تحديث:
الأحد 1 ديسمبر 2024 - 6:15 م
بتوقيت القاهرة
زوبعة أثارها وزير الخارجية الفرنسى جان نويل بارو، بعد طرحه مسألة «الحصانة التى يحظى بها قادة الدول غير الموقِّعة على نظام روما»، فى تلميح الى أن بلاده معفاة من اعتقال بنيامين نتنياهو.
الموقف الفرنسى من مذكرة اعتقال نتنياهو الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية كان منتظرًا، ليس فقط لأن فرنسا تقدم دائمًا نفسها كمهد حقوق الإنسان، بل أيضًا لأن رئيس الوزراء الإسرائيلى لجأ إلى نبش التاريخ عملًا بسياسة «خير وسيلة للدفاع هى الهجوم»، ليصف قرار المحكمة الجنائية الدولية بـ«محاكمة معاصرة لألفريد دريفوس».
لماذا دريفوس؟
قضية دريفوس التى دارت أحداثها نهاية القرن التاسع عشر، لا تزال حاضرة فى الذاكرة الجماعية الفرنسية والعالمية بعد تحولها إلى علامة فارقة فى تاريخ معاداة السامية. باختصار، اتُّهم النقيب الفرنسى ألفريد دريفوس بخيانة بلاده والتعامل مع ألمانيا. وعلى الرغم من الأدلة الهشة والمفبركة، تمسكت جهات قضائية وعسكرية بإدانته ظنًا منها أن ديانته اليهودية كافية لإلصاق التهمة به، فى تجسيد للصورة النمطية لليهودى «المشرد - الخائن والمفتقد أى ولاء وطنى». براءة دريفوس ظهرت بعد 12 عامًا عرفت خلالها فرنسا انقسامًا سياسيًا وشعبيًا حادًا حيال هذه القضية التى هزّت البلاد.
تصدير نتنياهو قضية دريفوس فى معرض هجومه المضاد، دفع إلى التساؤل منذ لحظة صدور مذكرة الاعتقال: هل باريس مستعدة لتنفيذها فى حال وجود نتنياهو على أراضيها، كونها من الدول الموقعة على نظام روما المؤسِّس للمحكمة الجنائية الدولية؟
الفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان سارعت إلى الرد على بيان الخارجية الفرنسية، معتبرة أن فرنسا تكذب، كما وصفت حصانة نتنياهو بـ«الحصانة المزعومة». رد هذه المنظمة غير الحكومية والفاعلة فى مجال حقوق الإنسان استند إلى نقاط عدة: أولًا، المادة 27 من نظام روما الأساسى والخاصة بعدم الاعتداد بالصفة الرسمية، إذ نصت المادة المذكورة على ما يلى: «لا تحول الحصانات أو القواعد الإجرائية الخاصة التى قد ترتبط بالصفة الرسمية للشخص، سواء كانت فى إطار القانون الوطنى أو الدولى، دون ممارسة المحكمة اختصاصها على هذا الشخص».
كما استندت الفيدرالية الدولية إلى اجتهاد قانونى صدر عن المحكمة الجنائية الدولية بعد زيارة الرئيس الروسى إلى منغوليا، أى إلى دولة عضو فى المحكمة الجنائية الدولية. المحكمة رأت فى عدم توقيف بوتين، الصادر أيضًا بحقه مذكرة اعتقال، عرقلة لعملها، مضيفة أن الحصانة لا تتعارض مع نظام المحكمة.
معايير فرنسا المزدوجة
وما يزيد من علامات الاستفهام حول موقف باريس هو بيان الخارجية الفرنسية، فى 17 مارس 2023، المرحّب بمذكرة الاعتقال الصادرة عن المحكمة ذاتها بحق الرئيس الروسي: لماذا لم تشر الخارجية الفرنسية إلى حصانة بوتين، خاصة أن روسيا كما إسرائيل من الدول غير الموقّعة على نظام روما؟
تناقض يشير بوضوح إلى أن الموقف الرسمى الفرنسى من مذكرة اعتقال نتنياهو تحكمه الاعتبارات السياسية على الرغم من محاولة إضفاء صبغة قانونية عليه. تناولت تقارير إعلامية إسرائيلية صفقة بين تل أبيب وباريس عنوانها: مشاركة فرنسا فى اتفاق وقف إطلاق النار وفى لبنان مقابل عدم تنفيذ مذكرة الاعتقال الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية.
بعيدًا عن صحة هذه المعلومات، كان التخبط الفرنسى واضحًا منذ صدور مذكرة الاعتقال، ما يعنى أن مركز القرار الفرنسى لم يكن فى الأساس متحمسًا للتجاوب مع قرار المحكمة الجنائية الدولية.
فى بادئ الأمر، كان الموقف الرسمى الفرنسى رماديًا: صحيح أنه لم يلجأ إلى تحدى القرار، كما فعل الرئيس المجرى فيكتور أوربان الذى وجّه دعوة لنتنياهو لزيارة بلاده، لكنه وفى المقابل لم يتعهد صراحة بتطبيق مذكرة الاعتقال كما فعلت إسبانيا وبلجيكا وهولندا.
الخارجية الفرنسية أصدرت بيانًا ضبابيًا، فى 22 نوفمبر، أوضحت من خلاله أنها أخذت علمًا بقرار المحكمة مجدّدة التزامها بدعم العدالة الدولية واستقلالية عمل المحكمة بما ينسجم مع نظام روما، مذكّرة بالفارق بين توجيه الاتهام وصدور الأحكام فى تلميح إلى قرينة البراءة لأى متّهم.
وازدادت الأمور ضبابية مع تصريح رئيس الوزراء ميشال بارنييه، إذ أعلن فى 26 نوفمبر أن فرنسا ستطبق التزاماتها بصرامة من دون أى إعلان مباشر عما إذا كانت بلاده تنوى اعتقال رئيس الوزراء الإسرائيلى. مراوحة انتهت فصولها بتصريح جان نويل بارو، فى 27 نوفمبر، والذى استُكمل ببيان عن وزارة الخارجية.
للتذكير، منذ 7 أكتوبر، انحازت فرنسا بوضوح إلى إسرائيل، ووصل الأمر إلى حد المزايدة، بخاصة مع اقتراح إيمانويل ماكرون تشكيل تحالف دولى لمواجهة حركة حماس. وعليه، يمكن القول إن باريس لم تحسن الفصل بين التموضع السياسى من جهة واتخاذ موقف من ملف قانونى تحكمه ضوابط نصية من جهة أخرى.
الضبابية الفرنسية
فى رأى أستاذة الحقوق فى جامعة ليون 3 ماتيلد فيليب - جاى، كانت الضبابية الفرنسية لتجنّب التورط على نحو مجانى: «ليس هناك من زيارة مقررة لرئيس الوزراء الإسرائيلى بما يفرض على باريس اتخاذ موقف آنٍ». بعبارة أخرى، الدولة الفرنسية راوغت ما دام لم يفرض البت بالمسألة.
جاى هى حقوقية متخصصة فى القانون الجنائى الدولى وعلى وجه التحديد «المسئولية الجنائية لقادة الدول». فى هذا الإطار، صدر لها كتاب فى العام 2023 حمل عنوان «هل بالإمكان محاكمة بوتين؟».
الحقوقية الفرنسية اعتبرت أن موقف الخارجية لن يغير من مسار الأمور: فرنسا أقرت نظام روما والقضاة الفرنسيون يُشهد لهم بالالتزام بالنصوص القانونية والمعاهدات الدولية. من جانب آخر، فرنسا عضو مؤسس فى الاتحاد الأوروبى وما صدر عن جوزيب بوريل فى هذا الخصوص لا يحتمل أى تأويل. وتوقفت جاى مليًا عند عبارة أخرى صدرت عن وزير الخارجية الفرنسى فى معرض تناوله حصانة نتنياهو المفترضة، إذ ختم بارو كلامه بالقول: «الكلمة الفصل تعود للسلطة القضائية».
بناء على هذه المعطيات، اعتبرت ماتيلد فيليب - جاى، فى حديثها إلى موقع درج، أن بنيامين نتنياهو سيمتنع من تلقاء نفسه عن دخول الأراضى الفرنسية تجنبًا للاعتقال والإحراج أو حتى منعًا لأى إهانة مفترضة قد يتعرض لها. بمعنى آخر، يدرك نتنياهو طبيعة النظام الفرنسى وآلية عمل مؤسساته التى لن توفر له أى حصانة مهما بلغ الدعم السياسى الذى يحظى به من جانب باريس.
على رغم ذلك، افترضت الحقوقية الفرنسية أن نتنياهو حط فى فرنسا بشكل أو بآخر، كمرور طائرته فى الأجواء الفرنسية واضطرارها للهبوط بسبب عطل تقنى. فى هذه الحال، سيبادر المدعى العام إلى طلب استصدار مذكرة اعتقال، على أن يبت فى الأمر قاضى الحريات والاعتقال. وعند تصديق القاضى، تحال المذكرة إلى الشرطة الفرنسية لتنفيذها.
قد يخشى البعض من تدخلات سياسية تجهض هذا المسار، خاصة أن الشرطة تخضع لسلطة وزارة الداخلية، أى لجهة سياسية. لكن جاى ردت على تلك «الهواجس» موضحة لـ«درج» نقطة جوهرية: «فرنسا من الدول التى دمجت نظام روما فى نصوصها الدستورية، ما يعنى أن الشرطة الفرنسية أصبحت ملزمة ليس فقط باعتقال قادة الدول المطلوبين للمحكمة الجنائية الدولية، بل حتى باعتقال الرئيس الفرنسى نفسه فى حال صدرت بحقه مذكرة اعتقال مشابهة».
باختصار، لا تعير ماتيلد فيليب - جاى أى أهمية للموقف الفرنسى، إذ لا مفر من التزام باريس بواجباتها، خاصة أن إقرار الدول نظام روما لم يكن إلزاميًا بل طوعيًا.
أما اللافت فى هذه القضية هو تلكؤ الأحزاب الفرنسية الداعمة لإسرائيل فى التصويب على المحكمة الجنائية الدولية والمزايدة على الحكومة. وعلى رغم صدور مواقف كهذا، لكنها كانت محدودة وافتقدت حملة إعلامية مكثفة.
تلكؤ يشير إلى محورية سلطة القانون فى الثقافة والممارسة السياسية الفرنسية: المكاسب التى كان يمكن تحقيقها فى الداخل الفرنسى من خلال ملاقاة نتنياهو فى استحضار دريفوس وادعاء التصدى لمعاداة السامية، لا تقارن بالخسائر الناتجة من التشكيك فى العدالة الدولية التى لطالما نادت بها فرنسا. وعليه قررت الأحزاب تجنب خوض هذه المعركة الخاسرة.
حسن مراد
موقع درج
النص الأصلى:
https://tinyurl.com/bdcumra9