ذات مساء التقينا

خولة مطر
خولة مطر

آخر تحديث: الأحد 2 أبريل 2017 - 9:30 م بتوقيت القاهرة

أكثر من ثلاثين عامًا قد مضت هى الآن تخطو ببطء نحو الستين وهو قد سبقها بسنوات.. أكثر من ثلاثين عاما وهما تتقاطع دروبهم سريعا أحيانا أو تأتى الأخبار متتابعة من أصوات بعيدة.. أكثر من ثلاثين عامًا قالت ــ ووقفت بين الأحرف مساحات قبل أن تكمل «أخذ يدى فى حضن يده لساعات بدت كأنها دقائق.. قال أتذكرين وكأن نهر الذكريات قد فاض على ضفاف الأرض وسقى زرعا كان لسنين قد جف من قلة الماء».
كررت «احتضن يدى وهو يتحدث وكأننا لم نبعد لحظة وراح يسرد الذكرى خلف الذكرى ويضحك كثيرا بل يقهقه ويكرر لم أعرف الضحك بعدك أو ربما حتى الابتسامة الآتية من قلب القلب».
قالت «فجأة عدت لخجلى الأول وكأنى الفتاة التى كانت قبل ثلاثين عاما أو أكثر.. قلت له لقد كبرنا وأنا اليوم أخطو بحثيث نحو الستين».. كررتها عليه فضحك ولم يستطع أن يتفادى اعلامها بأنها المرأة الوحيدة ربما على وجه الأرض التى تكرر ذاك الرقم، فغيرها يخجل كثيرا ويخاف من العمر أكثر وأكثر.. لم يتوقف عن الحديث.. لم تكن هناك فواصل بين كلماته، كعادته لا يضع الحواجز بينهما.. كعادته يعتبر الحديث معها هو حديث مع النفس.. كعادته لا يشعر بالاطمئنان والدفء إلا بحضورها أو هكذا قال ببضع كلمات وكثيرا من النظرات التى أجهدتها الأيام.
***
تأملته طويلا قبل أن يلاحظ هو ذلك.. شاب شعره وظهرت بعض التجاعيد على وجهه ونحل جسده ولكنها وبعد تمحص دقيق ككل المحبين توقفت لأنها لم ترد ربما أن تفسد اللحظة النادرة والمليئة بالسحر المعتق فى تعب الأيام.. ابتسم وهو يعيد تمرير يده على شعرها لا تزالين كما أنت، تقول فى قلبها يجاملنى حتما يجاملنى، لا يزال شعرك كالليل وعيناك الناطقتان أكثر من لسانك وتعابير وجهك وكثير من ابتسامتك الواسعة بعد كل حرف.. أنت لا تزالين تحولين ليلى إلى سماء مليئة بالأقمار والنجوم وعند تعبى أعود لابتسامتك أستمد منها دفئا وأملا.
قالت: «ذهلت عندما قال إنه أخطأ فى الابتعاد عنها وفى إنهاء العلاقة حينها أى قبل كل تلك السنين».. سريعا أرجعت اللحظات الأخيرة فلم تعرف كيف أعلنا الانفصال واكتشفت أنهما لم يفعلا لم يستطيعا حتى أن يعترفا بأن طرقهم قد انفصلت قبل ذلك وربما منذ أن التقيا فى المرة الأولى عندما سقطت هى فى بحر عينيه وهو يتابع خطواتها ولمساتها فى تلك الندوة الحقوقية الجافة.
***
كرر الاعتذار حتى اعتقدت هى أنه يحاول التكفير عن ذنب أو كأنه كذلك فيما هى لم تعاتبه، لم تتوقف لتسأله لماذا حدث ما حدث؟ لم تحاول أن تفسد تلك اللحظة أو ربما لأنها هى لا تعرف العتاب ولا تؤمن به أو ربما لأنها وقعت فريسة لسحره مرة أخرى بعد كل تلك الساعات بل الدقائق والثوانى.. فى السنوات الأولى كانت تبحث عنه بين السطور فى الجرائد والتقارير وبعدها صارت تتابع أخبار بلده وكثيرا ما كان البعض من الأصدقاء المشتركين يأتون بالأخبار دون أن يعرفوا طبيعة العلاقة التى كانت.. بقيت علاقتهم خاصة جدا عرفها البعض من أصدقائها والحلقة الضيقة من صديقاتها فقط.. وبقى الآخرون معتقدين أنهما أصدقاء فحسب.. تبتسم لأنها تكتشف أنها كانت لها قدرة على التمثيل ليس بالكامل ففى السنوات الأولى كانت عيونهم تفضحهم حتما وبعد ذلك اجتهدوا ليخفوا ذاك الحب خوفا من العيون أو كثيرا من الحسد.. عشقها كما لم يعرف أحد العشق أو هكذا تتذكر ومع الأيام عملت جهدها على الشرح والتمحص وفلسفة ما حدث حتى توقف بحر دموعها الليلى ولكنه لم يجف..
راحت تردد بيت الحلاج ذاك
العين تبصر من تهوى وتفقده
وناظر القلب لا يخلو من النظر
ذكرها به هو.. سألها ألا تزالين تحملين أبيات الشعر مخبأة فى قصاصات هنا وهناك فى شنطة يدك أو فى تلك الكراسة الصغيرة.. وأعاد: بيت الشعر ذاك الذى تحول إلى إسواره ماذا عنه؟
بيت الشعر.. بيت الشعر راحت تتذكره فلم تعد تلبس الإسواره تلك ولكنها لا تنساه لأنها كانت تردده عليه كلما التقيا
ياليت من نتمنى عند خلوتنا
إذا خلى خلوة يوما تمنانا
وبشيء من الغنج والعتب كانت تردد «إذا خلى خلوة يوما تمنانا» وكأنها ترسل الرسائل دون أن تفصح عنها؛ لأنها كما رددت لى ولصديقات أخريات لا تحب العتب فى الحب وتؤمن أنه يفسد اللحظة والحب فى رأيها لحظة.
لم يترك يدها إلا عندما وصلا إلى فندقها وخشيا أن تراهم تلك العيون المراقبة وضحكت هى لتقول لا نزال نخشى العيون ونحن فى الستين يا حبيبى لا نزال نخشاها كم نحن تعساء ربما أو ربما كم الحب محاصر فى أوطاننا.
***
افترقا كعادتهم دون موعد قادم.. ولا حتى وعد بالتواصل والاتصال فقط الذكرى لساعتين خارج الزمن وخارج اللحظة وكأن الثلاثين عاما قد تقلصت للحظات ثم عادت لتتمدد.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved