مدن بادلتنى الحب ثم تغيرت
جميل مطر
آخر تحديث:
الثلاثاء 2 أبريل 2019 - 9:55 م
بتوقيت القاهرة
شاب أحترم شبابه وذكاءه وأنتظر له مستقبلا زاهرا دعانى لزيارته فى مدينة فلورنسا، جوهرة مقاطعة توسكانا الإيطالية. دعانى مرة ثم أخرى وثالثة، وقبل توجيه الدعوة الرابعة سألنى عن سبب أو أسباب ترددى وأنا المعروف عنه عشقه لإيطاليا وبخاصة هذه المقاطعة الأشهر بشمسها وخضرتها ورموزها التاريخية. لم أجبه على الفور لعلمى أن بينه وبين فلورنسا عشقا لا يقل صدقا وعمقا عن الشعور الذى تبادلناه يوما، فلورنسا وأنا. هل أقول له إننى زرتها فقابلتنى بدون رونقها المعتاد. يومها لم تكن فلورنسا ولا كانت روما عند مستوى ذكرياتى فيهما وشوقى لهما. غضبت وجمعت أمتعتى ورحلت متوعدا، لن أعود.
***
عدت إلى تونس بعد غياب. عدت متطلعا لقضاء ساعة من الزمن على شاطئ كان شاهدا قبل عشرين سنة على حوارات ثرية وجلسات ممتعة. كنا، النادل والضيوف من باريس وبيروت والمنزه والقاهرة، نقضى الساعات نناقش ونلهو ونتنبأ ثم نختلف على سداد فاتورة اليوم. دقائق مرت وأنا جالس على مقعد وثير فى فندق فاخر أقيم على أرض كان يحتلها مطعم الشاطئ مقر حواراتنا وجلساتنا، نهضت بعدها مستأذنا مضيفى أن نغادر للعودة من سكة غير تلك التى سلكناها ذهابا. مررنا فى سكة الإياب بأحياء أخرى سكنت فى أحدها، وأشترى حاجتى من حلقة السمك فى حى آخر، وأقص الشعر عند حلاق فى حى رابع ثم أتمشى مرتديا «الشورت» وممسكا بأذنى «قفة» الخضراوات والفاكهة أصعد بها الشارع نحو بيتى عند الربوة، بيت يطل من ناحية على كنيسة وفندق «الملكة ديدون» ومن شباك غرفة نومى على صفى نخيل ينتهيان فى البحر. بقيت الكنيسة وتغيرت هندسة الفندق واختفت «الملكة» من عنوانه ولم أتعرف على بيتى.
***
إلى شيلى رجعت بعد ثلاثين عاما. نزلنا بفندق كبير. اجتمعنا على مائدة العشاء ولم أطلب لنفسى غير صحن الشوربة. رمتنى زميلة فى فريق العمل بنظرة استفهام مختلطا بالريبة. كنت قد رتبت بالبريد الإلكترونى مع «شاب» ليمر بالفندق ويصحبنى فى جولة بالعاصمة قبل أن أغادرها فى الصباح الباكر إلى شاطئ المحيط ومزارع العنب. الشخص الذى رتبت معه كان شابا فى مثل عمرى عندما تعرفنا إلى بعضنا لأول مرة قبل ثلاثين عاما. الشخص الذى كان ينتظرنى عند موظفة الاستقبال مستجيبا لرسالتى لم يكن شابا. قدرت أن يكون فى أواخر الخمسين. بادرنى بعد الحضن الأول بمجاملة معتادة تخص شكلى الذى فى نظره لم يتغير. ولمعرفتى بطبائع هذا الشعب قابلت مجاملته بمثلها. المؤكد أننى ما كنت عرفته لو لم أكن أنتظره ولو لم تقدمه لى موظفة الاستقبال بالاسم. حاولت أن أخفى بعض خيبة الأمل. انتظرته شابا يتحمل تنفيذ ما خططت من تفاصيل سهرة مكثفة الأنشطة فوجدته يحمل علامات رجل لا يسهر، وحتى إن جاملنى بقبول السهر فالعلامات نفسها توحى بأنه غائب عن كثير من تفاصيل المدينة ولياليها. تحركت بنا السيارة ومع السائق تعليمات من صديقى بالتوجه إلى مطعم وصفه بالأشهر والسمعة الطيبة. استأذنت أن أوجه السائق نحو جولة قصيرة قبل الوصول إلى المطعم. درنا فى الشوارع وأنا أستفسر عن مقهى اشتهر بشراب من تأليف صاحبه وتركيبه وعن مكتبة كانت تنفرد ببيع صحف أجنبية. خرجنا من وسط المدينة إلى حى بعينه وهناك استفسرت عن بيت من طابقين وحديقة صغيرة على ميدان تتوسطه نافورة مياه وعن موقف حافلات ركاب خط من خطوطها يصعد الجبل القريب من هنا. كل هذه الاستفسارات قوبلت من السائق والمضيف بإجابات سلبية.
تنبهت متأخرا إلى أن الأشياء هنا أيضا مع الزمن تتغير. تمنيت لو عادت بى الأيام وصعدت حتى نهاية خط حافلة الجبل لأجلس على أريكة خشبية بعينها وأشرب شرابا دافئا وأسمع صوتا لا غيره. طلبت من صديقى أن يعيدنى إلى الفندق ولكن بعد أن نمر على حى شعبى ونقف أمام عربة يد ورجل يقودها، هو فى الغالب نازح آخر من بيرو، يشوى قطعا من قلوب البقر الغاطسة فى مزيج خاص من البهارات الحارة. سمعنى السائق وعرض اصطحابنا. كانت كعهدى بها وجبة «على الواقف» ممتعة. غادرت سنتياجو حزينا.
***
من الذى تغير؟ تغيرت أنا أم تغيرت المدن؟ كدت ألقى باللوم على المدن مثلما فعل الشاعر أبو ريشة مع مرآته التى اتهمها زورا بخيانة عهود مودته فتغيرت وجعلته وهو الذى لم يتغير يبدو مسنا. أتيت كثيرا على نفسى حين اعتقدت أن المدن التى أحببتها لا تشيخ، وإن شاخت ففى وقار وأبهة ودلال، أو حين اعتقدت أن المدن كائنات تجدد نفسها وتتجمل وتتأنق لتظل مرغوبة وعلى الأكثر لترضى غرورها. وقعت فى غرام مدن ليست قليلة، بينها إن لم يكن فى صدارتها الإسكندرية وبيروت وتونس وروما وفلورنسا ودمشق ومونتريال وأسوان وسانتياجو وبيونس آيرس وفيينا. مدن أخرى كثيرة عشت فيها لا أحمل لها أية مشاعر قوية. عدت مرارا لزيارتها ملاحظا ما طرأ عليها من تغيير ولم أنفعل بشدة أو أتأثر. بكين واحدة من هذه المدن وكذلك نيو دلهى وبانكوك وهونج كونج ولندن وواشنطن وميلانو ونابولى.
تغيرت مدن كثيرة فى السنوات الأخيرة. صدمنى التغير فى أكثر من مدينة تبادلت وإياها الحب. مدن صارت باردة. مدن أخرى اندثرت بعض معالمها تحت طبقات من التراب والرمال وأحيانا النفايات. مدن ازدحمت فلا تراها وأنت داخلها. مدن نزلت فيها أنواع من سلالات التتار سرقوا جمالها، نهبوا آثارها بالليال وداسوا فوق حدائقها بالنعال، أقاموا فى ميادينها تماثيل فى قبح اللات والعزى، أزالوا الأشجار وأغاروا على الضواحى يشيدون ناطحات سحاب، مدن عديدة بضواحيها غاب عنها قرص الشمس فلا شروق تصبح عليه ولا غروب تودع به النهار.
***
نعم كلانا تغير. أنا تغيرت، صرت أكبر سنا. ومدن كثيرة أحببتها تغيرت، صارت أقل بهاء وجمالا. زحفت عليها أذواق القبح وعلى بعضها هيمنت.