وداعًا رجائى عطية.. حافظ رسالة المحاماة
إيهاب الملاح
آخر تحديث:
السبت 2 أبريل 2022 - 8:45 م
بتوقيت القاهرة
ــ 1 ــ
رحم الله الأستاذ والمحامى الكبير والقدير والمفكر الإسلامى الرصين رجائى عطية الذى غادر عالمنا صبيحة يوم السبت الماضى، الموافق 26 مارس، عن عمرٍ ناهز الـ 84 وهو يمارس مهنته الشريفة، ويترافع أمام منصة قضاء إحدى المحاكم بإمبابة عن محامين من أبناء مهنته قيد الحبس.
بعيدا عن شهرة الرجل الواسعة والعريضة كفقيه ومرجع قانونى أصيل ومرموق، وعن منصبه الذى شغله حتى آخر نفس كنقيبٍ للمحامين فى مصر؛ فإننى التقيته وعرفته وقابلته فى مناسبات متفرقة، كمثقفٍ واسع الثقافة عميقها، ومؤلف غزير الإنتاج والتأليف والتصنيف؛ فى مجالاتٍ عدة ومتنوعة، فضلا على مقالاته التى كنت شغوفا بها فى مجلة (الهلال).
وقد كتبت أكثر من مقال عن بعض أعماله الفكرية والتاريخية المهمة؛ منها على سبيل المثال كتابه «دماء على جدار السلطة»، وعن واحدٍ من كتبه عن العقاد، وقد كتب رحمه الله كثيرا جدا عن «العقاد» الذى كان يعشقه، ويُشغف أيما شغف بكتبه ومؤلفاته، وبالحديث عنها والإفاضة فى ذكرها، يكاد يحفظها حفظا، ويكتب عنها الأجزاء والمطولات الضخام.
ــ 2 ــ
وكان من حظى أننى التقيتُ المرحوم رجائى عطية فى مكتب المهندس إبراهيم المعلم رئيس مجلس إدارة دار الشروق، أثناء توقيع عقد بعض كتبه الجديدة التى أصدرتها «الشروق» خلال السنوات الخمس الماضية. وأذكرُ جيدا ما كتبه آنذاك المهندس إبراهيم المعلم احتفاء بصديقه الكريم وتقديرا لمكانته وقيمته «عقدٌ جديد لكتابٍ فى وقته للمحامى القدير المرموق، والباحث الموسوعى المجتهد، وعضو المجلس الأعلى للبحوث الإسلامية، الصديق الكبير والتلميذ الزميل فى مدرسة عبقرية العقاد، الأستاذ رجائى عطية.. وزيارة كريمة لدار الشروق تخللتها صولات وجولات فى القانون والفكر الدينى، والأدب، ومفاهيم القانون والدستور وعلاقتهما بالدولة الحديثة، والإنسانية المرتبطة بمفاهيم ومبادئ ورواسخ العدل والمساواة والإنصاف».
ولما يزيد على الساعتين، دار حوار مطول لا أنساه بينى وبين المرحوم رجائى عطية، وبمشاركة وإدارة المهندس إبراهيم المعلم، حول الأدب والقانون والمجتمع، وما طرأ من تغيراتٍ وتحولات عاصفة على بنية التعليم والثقافة، وبالتبعية على الممتهنين لأعمالٍ تتصل مباشرة بلب المعرفة الإنسانية الزاخرة، وما يجب أن يتوافر فى رجل القانون من سعة معرفة واطلاع وقدرات لغوية عالية، وقد تشعب الحديث وطال موضوعاتٍ وقضايا كلها تصب فى خانة التأهيل الضرورى والمفتقد والواجب، فيمن يدرس القانون، ويمارس مهنة المحاماة، ويكتب العرائض، ويترافع أمام القضاة.
ــ 3 ــ
كان رحمه الله من القلة القليلة التى نأَت ونجَت بنفسها ووعيها وثقافتها ولغتها من التردى المذهل الذى ضرب قطاعاتٍ لا بأس بها من طائفة القانونيين، ودارسى القانون والمشتغلين به فى الخمسين سنة الأخيرة، كان مثالا متجسدا لما يعنيه التكوين المعرفى الأصيل والحقيقى لرجل القانون المتمرس بكتابة المذكرات والعرائض عالية البيان، والمحامى المدافع عن الحقوق، وقارئ النصوص الذى لا يشق له غبار والمتبحر فى علوم التراث والمطلع على تيارات الفكر والمعرفة الحديثة والمعاصرة كأحسن ما يكون، وقدراته اللغوية العالية التى تساعده وتسعفه فى تناولاته وتفسيراته القانونية، فضلا على خبراته الكتابية التى تجسدت فى مؤلفاته الغزيرة، وموسوعته الزاخرة عن «حصاد المحاماة».
كان رحمه الله متبحرا فى علوم الأدب والقانون والأدب واللغة، والفلسفة والتاريخ والتراث والفكر، وله ما يربو على المائة كتاب، ومنها ما يتجاوز العشرة أجزاء.
فى سنواته الأخيرة، كان رحمه الله حريصا جدا على نشر، وإعادة نشر، مؤلفاته القانونية الغزيرة، وأعماله الفكرية والثقافية العامة؛ وقد ظفرت دار الشروق بطائفةٍ واسعة منها، «دماء على جدار السلطة»، و«حقائق القرآن وأباطيل الأدعياء»، و«فى مدينة العقاد» (ثلاثة أجزاء)، و«توفيق الحكيم وعودة الوعى»، و«رسالة المحاماة».. وغيرها.
لكن ربما كان من أهمها فى نظرى كتابه «تجديد الفكر والخطاب الدينى» الذى دارت حوله مناقشات غاية فى الثراء والقيمة، وإنتاج معرفة عميقة، ومنها ما كان سجالا حفظته مقالات منشورة بينه وبين المرحوم الدكتور جابر عصفور على صفحات جريدة (الأهرام)، وربما كانت تلك المقالات واحدة من الومضات النادرة لمناقشاتٍ وسجالات ثقافية رفيعة كانت تدور على صفحات الجرائد والمجلات فى أزمانٍ ولَّت، وعهودٍ ماضية!
ــ 4 ــ
يناقش الكتاب قضية «التجديد» فى الفكر والخطاب الدينى، ويقدم المرحوم رجائى عطية بيانا لمفهوم «التجديد» وإطاره وفروعه، وما يستلزمه التصدى لهذه الرسالة المهمة، منبها إلى أن الغاية هى «التجديد»، وليس التبديل أو التشويه، يقول فى مقدمته للكتاب: «يرجع اهتمامى بالكتابة حول تجديد الفكر والخطاب الدينى، إلى العقد الأخير من القرن الماضى، ثم تزايد إيقاع البحث والكتابة بعد استشراء ظاهرة العنف والإرهاب التى بات العالم كله يعانى من ويلاتها! وليس همى ترشيد الإرهابيين، فهم لا يحفلون حقيقة بالدين، وإنما يستمدون مرجعيتهم ــ أو بالأحرى تَعِلَتهم ــ من نظرٍ ملبوس مغلوط، يعرفون ما فيه من مغالطات وتزييف. وإنما كان همى ــ ولا يزال ــ تبصير الأسوياء، المهددين بإدخال هذا الزيف على عقولهم، وعلى فطرتهم السليمة التى خلقهم الله عليها».
وهو يؤكد أن التجديد واجبٌ بلا مراء، ولكن إطاره أوسع كثيرا مما تظن النوايا الحسنة، أو النظرات السطحية التى لا تتعمق فى الأمور، والأسباب والجذور! ويفصِل ــ رحمة الله ــ الحاجة الملحة إلى التجديد فى «الفهم والتطبيق» إلى جانب «الخطاب»؛ إذ لا ينبغى أن ينحصر التجديد فى الخطاب فقط، بل فى الفهم والتطبيق، ولا ينبغى كذلك أن ينحصر التجديد فى الخطاب الدينى، كما أن التجديد فى الفهم والخطاب لا يقتصر على الإسلام، بل واجبٌ فى كل دين.
ــ 5 ــ
رحمه الله رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته.. وخالص العزاء والمواساة لأصدقائه وطلابه وتلاميذه من شباب المحامين ومريديه وقرائه وعارفى قدره.. وإنا لله وإنا إليه راجعون.