المحكمة الجنائية الدولية.. بين العدالة المنشودة والمفقودة

أيمن النحراوى
أيمن النحراوى

آخر تحديث: الأحد 2 أبريل 2023 - 8:45 م بتوقيت القاهرة

لم تدخر الولايات المتحدة وحلفاؤها فى أوروبا سلاحا إلا وأشهرته فى صراعها ضد روسيا، وليس ذلك الأمر مفاجئا أو مستبعدا على الدول الغــربية التى دأبت على استخدام الأمم المتحدة ومؤسساتها استخداما براجماتيا وفق مصالحها دون خجل أو مواربة.

بالأمس القريب أصدرت المحكمة الجنائية الدولية قرارا بتوقيف الرئيس الروسى بوتين، بتهمة ارتكاب جرائم حرب فى أوكرانيا، وتضم المحكمة 123 دولة هى الأطراف فى نظام روما الأساسى المنشئ للمحكمة، ووقعت عليه روسيا فى عام 2000 لكنها لم تصادق عليه، وفى عام 2016 وقّع الرئيس الروسى بوتين مرسوما ينص على انسحاب روسيا منها، كما أن كلا من الولايات المتحدة الأمريكية والصين ليستا أعضاء، حيث لم تصادق كل من واشنطن وبكين أبدا على اتفاقية إنشائها.

فى عام 2003 نشر المدعى العام للمحكمة الجنائية الدولية رسالة رد فيها على الشكاوى التى تلقاها فيما يتعلق بالغزو الأمريكى الغاشم للعـــراق، وأشار فى رسالته إلى أن المحكمة الجنائية الدولية مفوضة لدراسة السلوك أثناء الصراع، وليس التقرير، إذا ما كان التورط فى نزاع مسلح قانونيا، وأن صلاحية المحكمة تقتصر على نشاط مواطنى الدول الأطراف.

وبذلك فقد تنصل المدعى العام للمحكمة من مسألة التوصيف القانونى لغزو العراق، كما تنصل من التحقيق فى الفظائع المروعة والجرائم التى انتهكتها القوات الأمريكية فى العراق، ولاحقا فى عام 2014 ولحفظ ماء الوجه أعلن المدعى العام للمحكمة إعادة فتح التحقيقات الأولية بشأن العراق، وفى النهاية لم تسفر عن أية نتيجة تذكر.

عندما فتحت المحكمة تحقيقا فى جرائم الحرب المحتمل أن تكون قد ارتكبتها القوات الأمريكية فى أفغانستان، فرض الرئيس السابق ترامب عقوبات على كبار موظفى المحكمة والمدعين العامّين بتجميد أصولهم ومنعهم من دخول الأراضى الأمريكية، والتأكيد على انعدام أى سلطة قضائية للمحكمة على المواطنين الأمريكيين، وهددت إدارة ترامب باتخاذ إجراءات لعرقلة تحقيقات المحكمة فى أفغانستان وفلسطين فى سلوك مواطنين أمريكيين وإسرائيليين موضع التحقيق.

وفى فلسطين، وبرغم الجرائم التى ترتكبها إسرائيل بالاستيلاء على الأراضى وتهجير السكان وإقامة المستعمرات وقصف المستشفيات والمنازل واستخدام المدنيين الفلسطينيين كدروع بشرية، ورغم أن قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة فى نوفمبر 2012 قد منحَ فلسطين صفة دولة مراقب، فإن ذلك لم يمنع الاعتراضات من كندا والولايات المتحدة وإسرائيل على قيام فلسطين باللجوء إلى محكمة الجنايات الدولية، والولايات المتحدة التى ترفض سلطة المحكمة على مواطنى الدول غير الأعضاء ما لم يُصرح بذلك بقرار من مجلس الأمن.

وبذلك تنتهج الولايات المتحدة والدول الغربية عامة سياسة متباينة فيما يتعلق بالمحكمة الجنائية الدولية فإذا توافقت توجهات المحكمة مع توجهات السياسة الأمريكية مثل الحالة فى ليبيا وفنزويلا وأوكرانيا، فإنها تكيل للمحكمة المديح والإطراء، أما فى الحالات التى لا تتفق مع سياسات الولايات المتحدة مثل الحالة فى العراق وأفغانستان وفلسطين، فإنها تحبط عمل المحكمة بالمعوقات وتنهال عليها بالانتقادات.
• • •

قامت المحكمة الجنائية الدولية منذ نشأتها بفتح تحقيقات فى 17 قضية، فى دول أفريقية مثل الكونغو وكينيا وليبيا ومالى وكوت ديفوار وبوروندى، ودول آسيوية مثل جورجيا وبنجلاديش وميانمار وفلسطين والفلبين، وكذلك فى فنزويلا وأوكرانيا، ولم تصدر سوى خمسة أحكام على أساس معايير موضوعية خلال 14 عاما كلها ضد أفارقة، مما جعلها عرضة لانتقادات شديدة بأنها تستهدف أفريقيا على نحو جائر.

منذ بدء العمل الرسمى للمحكمة فى الأول من يوليو عام 2002 تم توجيه عدد كبير من الانتقادات لها من قبل الحكومات ومنظمات المجتمع المدنى، بما فى ذلك الاعتراضات على ولايتها القضائية، واتهامات لها بالتحيز، واتهامات بالمركزية الأوروبية والعنصرية، والتشكيك فى عدالة اختيار القضايا وإجراءات المحاكمة، وغيرها من المسائل والمشكلات التى أثارت الشكوك حول عدالتها وفاعليتها فيما هى منوطة به.

لم يكن الرئيس الروسى الشخصية البارزة الوحيدة التى أصدرت المحكمة مذكرة بتوقيفها، فقد أصدرت المحكمة مذكرات اعتقال للرئيس السودانى السابق عمر البشير، ومذكرتى اعتقال للرئيس الليبى السابق معمر القذافى ونجله سيف الإسلام، كما مثل أمامها الرئيس الكينى كينياتا ونائب الرئيس وليام روتو الذى أصبح رئيسا فيما بعد.

إصدار المحكمة مذكرة التوقيف بحق الرئيس بوتين جاء بمزاعم أن موسكو ارتكبت جرائم حرب من خلال قصف أهداف غير عسكرية بلا هوادة فى المدن، إلى جانب تدمير البنية التحتية، وتضمن القرار الإشارة إلى مسئولية بوتين عن الترحيل غير القانونى للسكان ونقلهم من أوكرانيا إلى روسيا.

الادعاءات المذكورة فى مذكرة التوقيف بالغة الهشاشة، والوقائع تدحضها وتنقضها، فلو أرادت روسيا أن تشن حربا كاسحة مدمرة على أوكرانيا لفعلت ذلك، ولما استمرت الحرب إلى اليوم، لكن العكس هو الصحيح مع حرص روسيا على تسميتها بالعملية العسكرية الخاصة، وحرص قواتها الشديد على الحفاظ على أرواح المدنيين وفتح ممرات الخروج الآمنة لهم من مناطق الاشتباكات، مع الحرص والدقة إلى أقصى مدى فى الغارات والضربات الموجهة، لإحداث أقل قدر من الخسائر فى الأرواح والمدنيين.

وفى ذات الوقت، يمكن تخيل ما كان سيحدث لو شنت روسيا حربا شاملة بالمفهوم العسكرى بقصف كامل على المطارات والموانئ ومحطات الطاقة ومراكز المواصلات والاتصالات والجسور والسدود ومبانى الوزارات والمجمعات، لأعادت بذلك أوكرانيا فعليا إلى العصر الحجرى، لكن ذلك لم يحدث.

كما أن الادعاء بالترحيل القسرى للسكان من أوكرانيا إلى روسيا، هو ادعاء يثير السخرية، فهؤلاء ما هم إلا عدة آلاف من المدنيين من ذوى الأصول الروسية الذين نجوا من الفظائع الأوكرانية ضدهم منذ عام 2014 والتى وصلت لقصف مدنهم ومنازلهم بالمدفعية الثقيلة من جانب وحدات الجيش والميليشيات النازية الأوكرانية، وهذه فى حد ذاتها جريمة إبادة جماعية وجريمة ضد الإنسانية، وقد نقلتهم روسيا إلى مناطق روسية آمنة برغبتهم بعيدا عن مسرح العمليات العسكرية.

إضافة إلى ما سبق، فالنظام الأوكرانى وميليشياته يعدوا متهمين فعليا بجرائم حرب ضد الأسرى الروس، بعد أن قاموا بإعدام مئات من الجنود الروس الأسرى، وكان أشنع تلك الإعدامات مشهد إعدام قوات كييف أكثر من عشر جنود روس من أسرى الحرب، فى جريمة صوّرها هؤلاء المجرمون ونشروها فى فيديو دون حتى إخفاء وجوههم.
• • •

برغم أن روسيا أعلنت بأن القرار لا قيمة قانونية له، إلا أن الولايات المتحدة والدول الغربية يأملون أن ينعكس القرار فى الداخل الروسى على النيل من مكانة وشعبية الرئيس بوتين، بحيث يفقـــد الروس الثقة فى قدرته على القيادة، كما يمكن أن تقيد مذكرة التوقيف قدرته على التنقل والسفر خارج روسيا، ولا سيما أن جميع الدول المشتركة فى المحكمة وعددها 123 دولة عليها تنفيذ هذه المذكرة.

قرار المحكمة الجنائية الدولية برغم قيام روسيا بالتقليل من أهميته، إلا أنه تسبب فى دوى شديد، ولغط دبلوماسى وإعلامى سلبى كبير تجاه روسيا، ولا يعتقد أن هذا القرار سيمر على روسيا مرور الكرام، وسيكون له حتما مردود وانعكاس فى ميادين القتال وعلى الأزمة الأوكرانية برمتها.

أما المحكمة الجنائية الدولية، فستظل متراوحة بين هدفها المثالى الأسمى فى تحقيق العدالة المنشودة، وبين الواقع الدولى الذى يسوده منطق القوة الغاشمة والفعل دون رادع أو حساب، والبقاء للأقوى حيث العدالة المفقودة.

خبير وأستاذ الاقتصاد الدولى واللوجيستيات

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved