خفض سعر الفائدة.. ما له وما عليه!.. من السياسة النقدية إلى السياسة الإنتاجية

محمد عبدالشفيع عيسى
محمد عبدالشفيع عيسى

آخر تحديث: الجمعة 2 مايو 2025 - 7:25 م بتوقيت القاهرة

صدر قرر أخير للبنك المركزى بخفض أسعار الفائدة بحوالى 2%، يوم 17 أبريل الماضى. ولربما يمكن أن نقول، بهذه المناسبة، إن مسائل الاقتصاد هى أجلّ وأخطر من أن تترك لبعض الاقتصاديين، بالمعنى الضيق، على نحو ما يُذكر مثلا أن مسائل الحرب أهم من أن تترك لبعض العسكريين. ويبدو على كل حال أن البنك المركزى قد وجد أمامه عدة حقائق اقتصادية، فلم يكن بدّ أمامه من أن يستجيب لمنطقها. فقد وجد أمامه – أولا - زيادة مضطردة فى حصيلة النقد الأجنبى – مقومًا بالدولار - وخاصة من خلال التحويلات النقدية للعاملين بالخارج، بالإضافة إلى عودة (الأموال الطائرة) أو (الساخنة) مرة أخرى للاستثمار غير المباشر بما تحمله من «دولارات» تضاف للرصيد الكلى لميزانية النقد الأجنبى.
نضيف إلى ذلك، الانخفاض النسبى فى فاتورة الواردات، والارتفاع النسبى فى حصيلة بعض الصادرات، وإن نتج عن ذلك فى نهاية المطاف صعوبات فى تلبية بعض الاحتياجات الاستيرادية، سواء فى مجال الاستهلاك النهائى أو الوسيط أو فى المعدات الرأسمالية.
ثم إن البنك المركزى وجد أمامه قدرًا من المرونة فى أجهزة الإنتاج، وتراخيا فى وتيرة الطلب الكلى وفى بعض أقسام الرقم القياسى للأسعار.
من أجل ذلك، ربما استحسن صانعو السياسة النقدية، التخلى – إلى حد معين – عن سياسة «استهداف التضخم»ى inflation Targeting، بما حملته من نوع من التشدّد الظاهر، منذ خمس سنوات تقريبًا، والذهاب إلى قدر من «التيسير النقدى» من خلال استخدام أدواته المجربّة وأولها سعر الفائدة على كل حال.
ولربما شعر صانعو السياسة النقدية أيضا بقدر عال نسبيا من الثقة بفعل ارتفاع نسبى فى معدل النمو الاقتصادى الكلى، فلم يعودوا يخشون من حدوث ارتفاع طفيف فى المستوى العام للأسعار.
كل ذلك إذن، كان تحت أنظار صانعى السياسة النقدية فى البنك المركزى، فكان القرار بخفض سعر الفائدة الدائنة والمدينة وسعر الائتمان وسعر الخصم.
• • •
من المعلوم أن خفض سعر الفائدة له وجهان مختلفان: أولا: حدوث ارتخاء فى معدل التوسع النقدى بفعل تناقص الإقبال على الادخار العائلى فى الأدوات المستحدثة كالشهادات المصرفية عالية الفائدة حتى حدود ما فوق 27%.
ثانيا: التوسع فى الإقراض المصرفى الموجه للاستثمار فى المشاريع، للأفراد والشركات على اختلافها. بعبارة أخرى، إن خفض الفائدة يقلّل «الاكتناز» ويرفع من مستوى الاستثمارات الكلية. هذا ما يطلق عليه «السياسة التوسعية» مقابل «السياسة التقييدية». فهل البنك المركزى يتحوط لارتفاع محتمل فى الأسعار، أى حدوث ارتخاء فى قبضة التضخم، والسماح بزيادة محسوبة فى الأسعار؟
وهل يكون صانعو السياسة النقدية وصانعو السياسة المالية أيضا (بما فى ذلك سياسة دعم الطاقة)، على استعداد للتعامل المتكامل مع نتيجة مثل هذه السياسات؟ أم ترانا قد نُواجَه، والله أعلم، بموجة تضخمية فى لحظة ما، نتيجة التخلى عن «استهداف التضخم»، بالإضافة إلى قلة المعروض من بعض السلع المستوردة، بما لذلك من أثر على العرض الكلى (الناتج المحلى+الاستيراد)؟ فما الحل إذن؟
إننا لا ندعو إلى العودة لسياسة «التشديد النقدى»، بل نحن نرى اتباع السياسة التوسعية إلى أقصى حدّ ممكن ولكن على أن تكون سياسة محسوبة بدقة أكبر. بعبارة أخرى، إن السياسة النقدية والمالية – المتراخية نسبيًا – لابد أن تكملها سياسات أخرى، سياسات واعية وداعمة لتوسيع القاعدة الإنتاجية، وزيادة مرونة الجهاز الإنتاجى.
يتطلب ذلك، التوسع خاصة فى المجال الذى نفتقده نسبيا، وهو قطاع «الصناعة التحويلية»، سواء منها صناعة السلع الرأسمالية capital goods أو السلع الوسيطة، أو تلك الموجهة للاستهلاك النهائى.
ولكن كيف ذلك، وإن الاقتصاد الكلى فى مصر بأمسّ الحاجة إلى نوع من (إشباع الظمأ التمويلى) – إن صح التعبير - ولو من خلال التوسع فى قبول الاستثمارات الأجنبية والتمويلات الموجهة للمشروعات الكبرى Mega projects بما فيه المجال العقارى والبنية الأساسية والسياحة.
هنا نذكر أنه آن لنا أن نقيم سياستنا الاقتصادية الكلية على ساقيْن: ساق تسمح بالتمويل الأجنبى فى عدد من الخدمات، وساق تشجع التمويل المحلى فى الصناعة والتكنولوجيا المتطورة، ولكن من أين؟
هنا نعود إلى ما ذكرناه فى مواضع سابقة، وهو العمل على تشجيع الصناعات الصغيرة والمتوسطة من باطن الإقراض المصرفى مخفّض الفائدة.
فلنستغلّ خفض الفائدة الحالى إذن، وما يعنيه من لجوء مبرمج للتوسع، فيما هو قادر على نقل الاقتصاد نقلة حقيقية، ليس من خلال ما يعنيه الكثيرون برفع معدل النمو الاقتصادى الكمّى فقط، أى مجرد زيادة الدخل القومى ومتوسط نصيب الفرد من الدخل الحقيقى، من سنة إلى أخرى. ليس من خلال ذلك، ولكن بالعمل على تغيير وجهة الاقتصاد (من ناحية الكيْف) أى تركيبه الهيكلى، بالدفع المبرمج قدما لنصيب القطاعين الثانى والثالث من الناتج المحلى الإجمالى: قطاع الصناعة التحويلية، وقطاع الخدمات العلمية والتكنولوجية.
• • •
فهل ننتهز فرصة خفض الفائدة، من أجل التيسير والتوسع فى الصناعات الصغيرة والمتوسطة، وليس لمجرد العمل فى المشروعات الخدمية غير المتصلة بالإنتاج الصناعى؟
هذا ما نراه، ونأمل أن تتجه أنظار صانع السياسة الاقتصادية الكلية، أكثر، نحو الصناعة والتكنولوجيا، لتكملة بعض نواقص السياسة النقدية.
بذلك يتحقق الشعار الذى ذكرناه، وهو أن الاقتصاد الكلى يجب ألا يترك لبعض رجال الاقتصاد بالمعنى الضيق، كما فى بعض قطاعات النقد والمال، أو فى الاقتصاد العقارى والسياحة، بل أن يكون الاقتصاد أمانة فى أعناق الاقتصاديين بالمعنى الإنتاجى الحقيقى الواسع، كما ينبغى له أن يكون.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved