ارتبط شهر رمضان عندى على جلالة مكانته الروحية فى النفوس، واتصاله بشعيرة الصوم بالنهار، وقيام الليل وقراءة القرآن فى المساء، بصورة جميلة بالإقبال على المعرفة، بتنمية الذوق والحس الجمالى لدى المسلمين، شهر يسعى فيه المبدعون والمثقفون إلى ابتكار الجديد وتأليف الكتب ونشر المعرفة.
يظل رمضان بكل إرثه الثقافى والفنى والإبداعى والفلكلورى، فى مصر، ينطوى على «خصوصية» لا يوجد لها مثيل ولا شبيه ولا نظير بين كل بلدان العالم الإسلامى، شرقه وغربه، «خصوصية» حفظ لنا ملامحها وسجل تفاصيلها ودون مفرداتها ورصد إبداعها أعلام النهضة الفكرية والأدبية والثقافية فى مصر خلال القرن الماضى، كتاب وأدباء وفنانون، بقامة وقيمة طه حسين وأحمد أمين وعباس العقاد وأحمد حسن الزيات وزكى مبارك ومصطفى صادق الرافعى وعبدالقادر المازنى، ومن بعدهم توفيق الحكيم ويحيى حقى ونجيب ومحفوظ، وآخرين.
وسيدهش الباحث فى هذا المجال، إذ سيفاجأ بأنه لدينا مادة غزيرة وغير مسبوقة تركها لنا رواد النهضة الأدبية الحديثة فى كتبهم المختلفة وسيرهم الذاتية عن «رمضان»، فيكاد يكون كل واحد منهم قد سجل انطباعاته وذكرياته، فى فترة من فترات حياته الباكرة، عن الشهر الفضيل، وما كان يتميز به حضوره من اختلاف وتنوع فى السلوك والعادات والاحتفال، وتناول كل واحد منهم ببحثٍ وتفصيلٍ جانبا أو زاوية أو موضوعا يتصل بالشهر الكريم ليشبعها بحثا وتأصيلا ودرسا، لتتنوع المادة التى قدمها هؤلاء الرواد وتمثل فى مجموعها «كنزا» تاريخيا ومعرفيا وفلكلوريا، لم يقم أحد من الباحثين والدارسين المتخصصين بالالتفات إليه والاشتغال عليه.
سنجد مثلا طه حسين فى «الأيام» قد كتب شيئا عن حلول الشهر الكريم وهو طفل فى قريته بالصعيد، ورصد كعادته وبأسلوبه الفاتن وموسيقاه اللافتة، مظاهر السلوك والتغيير فى العادات التى تطرأ على الأسرة خلال الشهر الكريم، وتكاد تكون المشاهد التى سجلها طه حسين فى أيامه محفوظة من كثرة ما رجع إليها الكتاب واستشهدوا بها. لكن طه حسين كتب عن «رمضان» فى غير موضع من كتبه الأخرى، كتب فصلا رائعا عن فلسفة الصيام ومغزاه فى كتابه الجميل «مرآة الإسلام». كما كتب فصلا بديعا بعنوان «إجازة» فى كتابه «ألوان» سجل فيه شيئا من حياة الأزهريين وسلوكهم ونفسياتهم فى رمضان، وفى كتابه «أحاديث» أيضا.
أما الرائد الكبير، مؤرخ الحياة العقلية للمسلمين فى عصورها الأولى، الأستاذ أحمد أمين، صاحب الموسوعة الضخمة «فجر الإسلام» و«ضحى الإسلام» و«ظهر الإسلام»، فكان من الذين أولوا «رمضان» عناية كبرى لا على صعيد تسجيل التجربة الذاتية فقط التى دون منها جانبا كبيرا فى سيرته الذاتية القيمة «حياتى»، بل بالمجهود الذى بذله للتأصيل والتأريخ لجانب شديد الأهمية والقيمة معا، وهو الجانب الثقافى الفلكلورى للشهر الكريم، ذلك الذى لم يلتفت أحد إليه أحد قبل أحمد أمين، ليقوم فى كتابه الرائد «قاموس العادات والتقاليد والتعابير الشعبية» (صادر عن دار الشروق) بجمع وتصنيف مادة رائعة عن الجانب الشعبى من الشهر الكريم، مُعْتَقَدا وطقسا وفنا وسلوكا، إذ يخصص فقرات فى قاموسه لأهم وأشهر مفردات الثقافة الرمضانية التى عاينها المصريون واحتفلوا بها دون أن يهتموا بمعرفة شىء عنها أو النظر فى أصلها أو البحث عن جذورها..
مثلا ضمن هذه المواد الممتعة ما كتبه عن «الدِين» فى باب الدال، وتناول فيه شيئا عن الجانب الروحى والاحتفالى لفريضة الصوم فى حياة المصريين، وما كتبه من مواد عن: «المسحراتى»، و«الكنفانى»، و«الحلوجى»، و«الشربتلى»، و«الطرشجى»، و«الفانوس»، و«النُقَل» (الياميش)، و«وحوى يا وحوى».. إلخ.
ولم يكتف أحمد أمين بالمجهود الرائع الذى بذله فى قاموسه، والمادة التى ضمنها كتابه، بل قام بكتابة مقالات عديدة خلال ترؤسه لمجلة «الثقافة»، إحدى شوامخ الصحافة الثقافية فى عصرها الذهبى فى النصف الأول من القرن العشرين، كانت عبارة عن افتتاحياته للأعداد التى تصدر مع حلول الشهر الكريم، إضافة إلى كتابته سلسلة أخرى من المقالات أو الأحاديث تتناول موضوعا يمس الجانب الروحى من العبادات والطقوس الرمضانية، جمعها فيما بعد فى كتابه «فيض الخاطر» الذى يقع فى عشرة أجزاء.
التقليد ذاته، كان سمة سار على نهجها معظم الكتاب الكبار فى ذلك الحين، خاصة من الذين كانوا يصدرون دوريات أدبية وثقافية عالية القيمة والأسلوب، ومنهم الرائد الكبير أحمد حسن الزيات صاحب مجلة «الرسالة» العريقة، أشهر وأهم الدوريات التى شهدها تاريخنا الثقافى فى تلك الفترة الزاهرة، إذ كان الزيات يخصص أعدادا خاصة ومستقلة احتفالا بالشهر الكريم، يشارك فى تحرير موادها وكتابة مقالاتها وموضوعاتها المميزة كبار الكتاب والأدباء والمثقفين..
وللحديث بقية..