حصيلة المرحلة الأولى في تشكيل شرق أوسط جديد

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الأربعاء 2 يوليه 2025 - 8:55 م بتوقيت القاهرة

مرة أخرى نقع فى خطأ الخلط بين النتيجة والسبب. نقع واعين، غير آسفين ولا معتذرين، حجتنا أن المرحلة محل البحث أو الرأى لا تتحمل ضغطًا آخر ولو كان عاطفيًا أو إنسانيًا.
لم يستشرنا أحد، أقصد يستشير بلدى وبنى قومى. فجأة وجدنا أنفسنا نتصرف تصرفات المجبر على المشاركة فى صنع هذا المستقبل الذى هو من ابتكارهم، ابتكار أصحاب الأسطورة والخيال والقوة، أيها أقوى. هى أيضًا تصرفات المجبر على المساهمة فى خنق الحاضر ومن شواهده بقايا من النظام الإقليمى العربى المزود بقومية عربية وتجارب عمل إقليمى استمر غير ثابت الخطوات لمدة تزيد على ثمانين عامًا.
• • •
للمرحلة، وأقصد بها الفترات الأخيرة فى حياة منظومة الانحدار، هذا الانحدار الذى لم يفلت منه فى الفترة الأخيرة طرف أو آخر من أطراف الصراع الدائر فى الشرق الأوسط، للمرحلة أسبابها وعلاماتها التى تميزها عن كل المراحل التى مر بها الإقليم. يميزها بشكل خاص عمق ما سوف تخلفه من آثار.
أتحدث هنا عن تدهور، بمعنى تفاقم حال، الانحدار فى الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية. كثيرة هى المظاهر والآثار على امتداد نصف قرن أو ما يزيد. لن ننساق وراء مذاهب فى نظرية العلاقات الدولية تفسر الاهتمام بانحدار الغرب باعتبار أنه نقيض الصعود الصينى. قد يكون، ولكن يجب أن نفسره، كما فسر المؤرخون انحدار امبراطوريات فى الغرب والشرق باعتباره مرحلة حتمية فى دورة صعود وانحدار وتفسخ لدوافع ذاتية وحقيقية.
لم أجد نفسى معترضًا بشدة على الرأى الشائع فى الإعلام الغربى قبل غيره والقائل بأن حال الولايات المتحدة الراهنة، وأقصد معظم سلوكياتها الداخلية والخارجية تنبئ بانحدار ربما كان غير مسبوق فى صورتها الدولية. لا أستطيع إلا أن أنتقد وبشدة الكثير من المواقف والسياسات الخارجية الأمريكية، ولكنى أختار بوجه خاص وعلى سبيل المثال أسلوب صنع القرارات فى وجود صحفيين وإعلاميين وكاميرات التصوير. أنتقد، أيضًا، وكثيرون غيرى الاستغراق فى حب الذات والاعتماد على سياسيين مخلصين للرئيس شخصيًا لإدارة دواليب الحكم وأكثرهم بخبرة وتجارب قليلة. ننتقد كذلك وينتقدون التقلب فى المواقف والكره الشديد لزعماء دول الغرب والنظرة الدونية لجميع حكام عالم الجنوب.
أعرف أن الأسلوب المسرحى فى إدارة شئون الدولة وبخاصة شئونها الخارجية أثمر استهانة واضحة بأداء أمريكا. أذكر مثلًا الدعوة الرئاسية إلى شعب طهران لإخلائها، أو فرحة الرئيس المبالغ فيها بالأموال التى حصل عليها من دول فى الجنوب وصمت الأجهزة التشريعية والرقابية إزاءها، أذكر أيضًا سقوط هيبة المكتب البيضاوى، رمز الهيمنة الإمبراطورية، وبخاصة بعد أن صار ساحة لمهرج يتراقص فيها ويداعب ابنه ويتدخل للإضرار بمصالح دولة جنوب إفريقيا. هذا الأداء الذى أفرز، أو ساهم مع غيره من أسباب انحدار الغرب بصفة عامة وأمريكا بصفة خاصة فى إفراز، فوضى دولية، استثمره مغامرون فى الشرق الأوسط وإفريقيا، أفرز أيضًا تراخيًا، وفى معظم الأحيان شللًا، فى معظم مؤسسات الأمم المتحدة ومنظمات إقليمية مثل جامعة الدول العربية.
• • •
أعود لأوجز مجمل تصورى لحالنا وحال المنطقة فى اليوم السابق على إعلان قيام شرق أوسط جديد.
انتهت حرب الاثنى عشر يوما بين إيران وإسرائيل مخلفة علامات واضحة لحال الدولتين والنظام الإقليمى. بعض هذه العلامات كانت من صنع دولة عظمى تعانى من أسباب انحدار يرفض أن يتأنى أو يختفى وصنع الفاعلين الأساسيين وأقصد كلًا من إيران وإسرائيل ومن صنع صمت أو غياب أكثر أو أهم اللاعبين فى منظومة العمل العربى.
أولًا: الأهم فى صورة الحال الدولية والإقليمية على ضوء الحرب وما تخللها وأعقبها هو تفاقم الأخطار الناتجة عن استمرار حال الانحدار فى القوة الكلية لأمريكا فضلًا عن وجود رئيس لها بصفات غير عادية فى إدارة الأزمات والحرب. أضرب مثلًا بإعلان هذا الرئيس الطلب إلى سكان طهران إخلاء العاصمة، وفى خلفية هذا الإعلان خبر مسرب يفيد بأن الهدف من الحرب إسقاط النظام الحاكم فى إيران. أضرب مثلًا آخرًا لا يقل أهمية، وهو إصرار هذا الرئيس على أن يتعامل مع رؤساء دول أخرى بسخرية وإهانة مقززة أثارت التوتر فى معظم عواصم العالم وبخاصة العواصم العربية. أضرب مثلًا ثالثًا، وهو اقتباس النظام الأمريكى لنظام الجزية من النظام الإمبراطورى الإسلامى لتطبيقه بشكل مختلف قليلًا على دول فى أوروبا والشرق الأوسط، إلى حد أن تحليلًا أو أكثر فى صحافة الغرب وصف حال بعض هؤلاء الحكام بالمثير للشفقة.
على كل حال لم تحصل أمريكا نظير تدخلها سواء بالتنسيق مع إسرائيل أو بالقصف الفعلى والأعنف لمواقع التخصيب الإيرانية على سلام من أى نوع بين المتحاربين الأصليين. بل وفى الإمكان أن نحكم على العمل العسكرى الأمريكى ضد إيران بالفشل مثله مثل الفشل الأمريكى المشهود فى حربيها ضد فيتنام وأفغانستان. الأسوأ من هذا الاحتمال أن تكون أمريكا سمحت لإسرائيل حليفتها بأن تجرها جرًا نحو حرب لا تخصها مباشرة، وكان بين الاحتمالات المرعبة أن ينتهى الأمر بحرب عالمية. لم يتحقق هذا الاحتمال بالنظر إلى أن الصين لم تزل غير مؤهلة أو جاهزة داخليًا وأن الأوضاع الدولية تراها تتطور لتصير فى مصلحتها دون اللجوء لحرب.
ثانيًا: استقر فى تعليقات غربية أن إسرائيل خرجت من هذه الحرب منهزمة. المثير فى الأمر والمتعلق بحال دول الشرق الأوسط فى اليوم السابق على إعلان الشرق الأوسط الجديد هو أن الإعلام العربى فى مجمله لم يهتم عن عمد بترسيخ هذه الحقيقة فى الوعى العربى. لذلك لم يكن مفاجئا لنا الإعلان مبكرًا جدًا عن خطة سلام شاملة تعتمد القصة الإبراهيمية تغطية وعقيدة وجوهرًا لها. خطة تتجاوز التدرج فى المجال العربى إلى الانطلاق نحو جميع دول الشرق الأوسط الجديد. أتصور أن كلتا الدولتين، الأعظم دوليا والأعظم إقليميا قررتا اقتحام الإقليم عسكريا وسياسيا واقتصاديا بذريعة حاجة دول الشرق الأوسط، كما كشفت الحرب بين إيران وإسرائيل، إلى «درع» يحميها من بعضها البعض. هذه الدرع، فى نظر أصحاب هذا الرأى، توفره الاتفاقات الإبراهيمية بدليل المواقف الكاشفة التى مارستها وبإصرار بعض الدول العربية وتركيا خلال الهجوم الشامل على إيران من جانب إسرائيل والولايات المتحدة.
نتوقع بالتالى، حملات إحراج وحملات مصالحة وحملات مصاهرة وحملات «دينية» تقارب بين بعض الممارسات والنصوص كما حدث مع كنيسة روما، كلها وغيرها يستفيد من حال سلوكيات معظم دول المنطقة خلال حرب الأيام الاثنى عشر، حملات تنتهى بوضع إقليمى يستطيع الرئيس الأمريكى وحواريوه الاستناد عليه للضغط على منظمى جائزة نوبل لتكون من نصيبه، بينما المستفيد فعليًا ستكون دولة إسرائيل التى ستتوج فى اليوم التالى لحرب الاثنى عشر يومًا قائدًا ومهيمنا للشرق الأوسط الجديد.
يقال إن فى الأمر عقدة تحتاج أول إلى حل. لن نصل إلى اليوم التالى لحرب إسرائيل ضد إيران قبل أن تشرق شمس اليوم التالى لحرب إسرائيل ضد غزة والضفة. بمعنى آخر هناك من ينتظر أن تتحول معظم دول الإقليم من موقف القوى السلبية إلى موقف القوى الإيجابية.

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved