نجيب محفوظ.. حضور لا يخبو
إيهاب الملاح
آخر تحديث:
الجمعة 2 سبتمبر 2016 - 9:05 م
بتوقيت القاهرة
لم تمر الذكرى العاشرة لرحيل نجيب محفوظ (1911ــ2006) كغيرها فى السنوات السابقة، الأمر هذه المرة مختلف، عقد من الزمان، عشر سنوات بالتمام والكمال، والرجل ملء السمع والبصر، شاء من شاء وأبى من أبى! مَنْ وُلد فى العام 2000 صار عمره الآن ستة عشر عاما؛ أى أن هناك موجات متتالية من أجيال شابة وجديدة، إما أنها تتعرف على اسم نجيب محفوظ للمرة الأولى أو أنها سمعت به وشاهدت شيئا من أفلامه، لكنها لم تخض بعد رحلة اكتشافه وقراءة أعماله.
المثير فى الاحتفال بذكرى محفوظ هذا العام؛ على الأقل من وجهة نظرى، هو هذا الحضور العارم والكبير والقوى، اسمه يتردد بقوة وأعماله تعاد طباعتها ويسأل عنها مرارا (قبل عدة شهور أثيرت زوبعة حول اختفاء أعماله من المكتبات وانحسار العناوين المعروضة له فى منافذ بيع دار الشروق والمكتبات بشكل عام.. وثبت بعدها أن كل أعمال نجيب محفوظ متوفرة فى المكتبات ومنها ما نفدت طبعاته أكثر من مرة خلال السنوات الأخيرة بشكل خاص)، ولفت نظرى أيضا أن دار الشروق قامت بتوفير طبعات جديدة لنحو عشرة من أبرز وأهم روايات محفوظ: «مصر القديمة»، «القاهرة الجديدة»، «زقاق المدق»، «خان الخليلى»، «الشحاذ»، «المرايا»، «الحب فوق هضبة الهرم»، و«أصداء السيرة الذاتية».. فضلا عن صدور طبعات جديدة من أعمال أخرى خلال الفترة المقبلة.
وكان مما يستلفت الانتباه أيضا، حضور الذكرى العاشرة لرحيل محفوظ فى ساحة الصحافة والميديا المصرية والعربية؛ على الرغم مما كان سائدا قبلها من تكهنات رأت أنها (أى ذكرى رحيله) ستمر مرور الكرام ولن يتوقف عندها أحد «فمن الذى يذكر نجيب محفوظ الآن أو يسأل عنه؟!» أو «وهل هناك من يبحث بعد عن روايات نجيب محفوظ ليقرأ منها شيئا»؟! قرأت هذا أو ما يشبهه فى إحدى الصحف أو المواقع الإلكترونية!!
لا أدعى أننى فوجئت مفاجأة كاملة بأن تتصدر ذكرى نجيب محفوظ برامج التوك شو يوم الثلاثاء الماضى (30 أغسطس يوم وفاة محفوظ).. لكننى اندهشت فعلا من الاهتمام الكبير والرغبة المخلصة فى إلقاء الأضواء على الرجل وسيرته وإبداعه وتعريف أجيال جديدة ناشئة بهذا العبقرى، يعنى مثلا، برنامجان على قناتين فضائيتين مختلفتين ويحظيان بنسب مشاهدة عالية، يخصصان فقرة كاملة عن نجيب محفوظ وصلت فى أحدهما لأكثر من ساعة ونصف الساعة!
فى واحدة من القناتين، ومن خلال برنامج إبراهيم عيسى، حضر نجيب محفوظ وحضرت ذكراه، وتحدث عنه عيسى كعاشق متيم عن أدبه بل قرأ على الهواء مباشرة ما يحفظه عن ظهر قلب من عمله الفذ «أحلام فترة النقاهة»، قرأ ثلاثة نصوص من الأحلام وربطها بواقع مصر الآن اجتماعيا وسياسيا وثقافيا.
فى القناة الأخرى، ومن خلال نافذة برنامج (السادة المحترمون) الذى يقدمه يوسف الحسينى، استضاف البرنامج الكاتب القدير محمد سلماوى فى حديث ذكريات مطول، وحكايات عن محفوظ الكاتب والإنسان والظاهرة.. كانت حلقة لطيفة وممتعة وتابعها عشاق نجيب محفوظ وأدبه بشغف واستمتاع جميل.
فى الصحف الورقية والمواقع الإلكترونية، كانت مظاهرة، سَمِها «تظاهرة» إذا شئت، لكننى أيضا تفاجأت بِكَم وحجم المساحات المخصصة للاحتفال بذكرى محفوظ فضلا عن المادة المقدمة (التى عادة ما تكون فى كثير من الأحيان مكرورة ومجترة ومعادة ولا جديد فيها على الإطلاق!) خذ عندك:
فى جريدة (المقال) صفحتان عن نجيب محفوظ «بمزاج عالى أوى» تحت عنوان «نجيب محفوظ ــ لا ينتهى السحر»، مادة ورسما وإخراجا، واحتفاء صادقا بصاحب نوبل.
ومجهود رائع من شباب مثل الورد فى ملحق المطبعة من جورنال (اليوم الجديد)، ثمانى صفحات «تابلويد» خلاصة رائعة لعمل صحفى يستحق الاحترام والإشادة وتعب جيل جديد يعيد اكتشاف العظيم نجيب محفوظ ويعيد قراءته واستلهامه، بإشراف الصديق الصحفى البارع محمد هشام عبية، أفكار شابة وطازجة، وشهادات جديدة، وصحافة «حلوة» تذكرك بريحة صحف زمان، وأيام زمان!
ولم تفت صفحة الثقافة بروزاليوسف الاحتفاء بالمناسبة، وصفحة أخيرة فى جريدة (اليوم السابع) أعاد فيها الكاتب والصحفى وجدى الكومى التذكير بالكراسات التى كان يتدرب فيها نجيب محفوظ على الكتابة «من أول وجديد» عقب محاولة اغتياله والضرر البالغ الذى أصاب يده اليمنى.
ثم كانت ثلاث صفحات خصصتها جريدة (الشروق) على مدى ثلاثة أيام متصلة، عن نجيب محفوظ، بأقلام ثلاثة كتاب ينتمون لمدارس وتيارات مختلفة فى الكتابة والنقد والصحافة، واحدة بقلم د.زكى سالم قدم فيها قراءة لآخر نصوص محفوظ المنشور «الأحلام الأخيرة» أو الجزء الثانى من «أحلام فترة النقاهة»، ودراسة ممتعة نشرت على صفحة كاملة للصديق والناقد القدير محمود عبدالشكور عن «اللص والكلاب.. بين الواقع والرواية»، وأخيرا محاولة، لكاتب هذه السطور، للبحث عن «رواة السيرة المحفوظية» أو الذين كتبوا جوانب سيرة محفوظ بإملائه ونقلا عنه وفى الحدود التى سمح بها فقط!
ولم تغب ذكرى صاحب نوبل عن الصحافة العربية، فجريدة السفير اللبنانية، مثلا، خصصت ملفا ممتازا بملحقها الثقافى الصادر أمس الجمعة، عن نجيب محفوظ فى ذكراه العاشرة، نشرت فيه مواد عميقة لكتاب وصحفيين وروائيين من مصر ولبنان وسوريا.
هل أستطرد وأخبرك أيضا بما احتشدت به صفحات مواقع التواصل الاجتماعى؛ خاصة فضاءها الأكبر والأوسع انتشارها «الفيسبوك»، من استحضار واستذكار لذكريات وحكايات لنجيب محفوظ وعنه، صور ومشاهد، بالألوان والأبيض والأسود، مقاطع ومقتطفات من أعماله، رواياته وقصصه، أحاديثه وحواراته، طبعا فضلا عن الكثير مما هو منسوب إليه ومدسوس عليه كالعادة منذ صارت موضة فبركة الأقوال والمقولات على لسان المشاهير (وهل هناك أشهر من نجيب محفوظ فى تاريخ الكتابة العربية كى يفبرك على لسانه عشرات ومئات وآلاف العبارات ولا أحد يراجع أو يدقق أو يوثق.. ما علينا فلهذا حديث وموضع آخر!).
دعنى أخبرك، صديقى القارئ العزيز، أننى كتبتُ كثيرا عن نجيب محفوظ، ولا أملُ من الكتابة عنه ولا عن سيرته وأعماله؛ لأننى بالأساس لا أفارق كتابته منذ تعرفت عليها قبل ما يزيد على خمسة وعشرين عاما، حينما أدركت وقتها بحس طفل يتعرف على أدب مكتوب للمرة الأولى، وبفطرة ساذجة، أننى أمام شىء كبير، أدب فخم، كتابة لا تشبه غيرها ولا نظير لها فى ما قرأت (وتبين لى بعد ذلك أنها لا نظير لها لا سابقا ولا لاحقا فى مساراتها ولا عوالمها ولا سياقها التاريخى والفنى)، تجاوز الأمر أنك تقرأ أدبا يثير نوازع الجمال والتفكير فى روحك وعقلك، بل إنك تقرأ ما يتجاوز نصا مكتوبا، تقرأ حلما تتمنى أن تحلم به دوما، يقظة ومناما، تسمع لحنا تستعذبه دائما فى أذنك، تشاهد فيلما جميلا لا تمله أبدا..
وما زال نجيب محفوظ «حيا» و«حاضرا» و«متوهجا».. وأدبه الإنسانى الخالد لا يموت.