الطبيعة التى انفصلنا عنها
جميل مطر
آخر تحديث:
الأربعاء 2 أكتوبر 2013 - 8:00 ص
بتوقيت القاهرة
كان يقال لنا اخرجوا بين الحين والآخر من المدينة إلى «الطبيعة». هناك، عندما تخلوان لبعضكما البعض، أنت والطبيعة، يزول الإرهاق وترتاح النفس وتسعد الروح. يكفى أن تعيش وحولك الطبيعة تحيط بك من كل جانب، تتنفس هواؤها النقى وتستمتع بألوانها، لون غاباتها ولون صحاريها وألوان قوس قزح. هناك تشعر بالحرية.
●●●
مزودا بهذه النصيحة القديمة، خرجت فى نهاية الأسبوع الماضى إلى الطبيعة على أمل أن أختلى بها فى مكان ناءٍ وبعيدا عن الأنظار. تركت المدينة خلفى ووجهتى الصحراء، ومن الصحراء إلى البحر. قضيت ساعات فى السيارة تنهب الاسفلت وعلى جانبى الطريق أكوام من أحجار «الكسر» بعثت بها المدينة التى سخرت نفسها لمطاردة الطبيعة إلى ما وراء حدودها، وبين الأكوام قامت اكشاك «بذيئة» الشكل وظيفتها الأولى تشويه سمعة طرفى العلاقة، العمران والطبيعة.
وفى النهاية وصلنا إلى مكان مطل على الطبيعة. جهرت بالشكوى، أنا لم آت إلى هنا لأطل على الطبيعة. جئت لأعيش فيها.. لنخلو إلى بعضنا البعض.. ليحيط الواحد منا بالآخر. فاجأتنا عمائر فى كل مكان.. قرى «سياحية» اختار مواقعها وشيد عماراتها وقصورها وشاليهاتها بعض من عبدة الأحجار وبعض من مطاردى الطبيعة وأعدائها والبعض الثالث «محدث» اصطياف، وهذا البعض الأخير يجمع بين بالغى الثراء والصاعدين لتوهم من حد الفقر.
●●●
هناك عند الشاطئ الرملى الضيق وجدت نفسى على بعد خطوات من الطبيعة. البحر أمامى ومن خلفى مبانٍ، وعلى يمينى ويسارى مبانٍ تطاردنى كما طاردت وتطارد الطبيعة. ميكروفونات تصرخ بأصوات وموسيقى أقل ما يقال فيها انها كانت أشد التصاقا وانسجاما مع الأسمنت والأسفلت وأبعد ما تكون عن الطبيعة. رأيت البحر فى تلك اللحظة كما لو كانوا جاءوا به من بعيد ووضعوه عنوة فى المكان. بدا كرقعة مياه مالحة مستوردة خصيصا من محيط أو بحر أوسع لتزويق قرى مقامة على هذا الطرف من الصحراء. هكذا رأيت الطبيعة وقد انكمشت أمام زحف البشر وصخبهم وزحامهم وشرههم المادى.
●●●
لماذا فعل الإنسان بالطبيعة وبنفسه ما فعل؟ يجيب بعض الفلاسفة القدامى بأن الإنسان تنكر للطبيعة وقرر أن يشتبك معها فى عداء منذ أن بدأ يبحث عن «الحقيقة» أينما كانت وكيفما كانت. استطيع ان اقدر قيمة هذا الرأى، وبخاصة وقد واتتنى فرص التقيت خلالها كثيرين اهتموا بالسعى للتوصل إلى الحقيقة أكثر من اهتمامهم بتكلفة هذا السعى أو حتى بشكل وجوهر الحقيقة التى سيحصلون عليها نتيجة هذا البحث. أضرب مثالين.
أبدأ بالمكتشفين الكبار الذين اكتشفوا منابع النيل متخيلا مشقة السفر فى تلك الأيام، ثم أسأل هل كان أى من هنرى ستانلى ودافيد ليفينجستون يقوم برحلته لو عرف أن بحثه عن الحقيقة سيتسبب فى مذابح بلا حدود فى القارة الإفريقية على أيدى مواطنيه من الاستعماريين الأوروبيين. المثال الثانى يبدأ أيضا بسؤال: هل استحقت النتائج (أو الحقيقة) التى حصل عليها المحققون فى سجن أبوغريب وسجن جوانتانامو وسجون مصر ومعتقلاتها ما وقع فيها من عذاب وقسوة وآلام. لن انتظر إجابة من محقق أو خبير فى التعذيب أو من حقوقى أو رجل عدالة «انتقالية». سأجيب أنا وبدون تردد. «كلا، لا تستحق. فالحقيقة اذا خرجت من عملية منافية للطبيعة أو معادية لها لا تساوى الثمن الذى تدفعه الإنسانية من كرامتها وسعادتها».
●●●
المثير للانزعاج من وجهة نظرى هو دفاع أعداء الطبيعة عن أنفسهم، ومحاولتهم تبرير ما فعلوا، سواء وقع المبرر تحت عنوان الإرهاب أو وقع تحت عنوان مسيرة الحضارة والعمران، ففى النهاية أعرف ويعرفون، وإن كانوا لا يعترفون، أن الإنسان الذى كشف عن «حقيقة» وهو تحت التعذيب سيخرج هو ومعذبه كلاهما من عملية البحث عن الحقيقة منفصلين عن الطبيعة وقوانينها وعدالتها، سيخرجان عدوين دائمين للمجتمع والدولة. أعرف أيضا ويعرفون أن زهرة لن تنبت فى تربة من الاسمنت والأسفلت، وأن غابة لن تقوم فى أرض توسعت عليها مدينة فى اندونيسيا أو فى البرازيل. فالطبيعة «بطبيعتها» اتساق وخيرات وحكمة ولا يمكن ان تتوافق مع منظومة ظلم وبشاعة وتدمير.
●●●
ليوباردى، اديب إيطالى اشتهر شعره بالتشاؤم، وعاش فى القرن التاسع عشر ينعى السعادة. قال إن الأمر المؤكد هو أن البشر بل والحيوانات سوف يعيشون فى المستقبل حياة تعيسة. قال لمحدثه، «أدخل إلى حديقة نباتات وحشائش وزهور، لا يهم كم تبدو جميلة. انظر حولك فى أى اتجاه، لن تجد إلا معاناة وتعاسة. الزهرة تتعرض لهجوم وحشى من الشمس، الشمس نفسها التى منحتها الحياة.. فتجف وتنكمش وتذبل. وهناك، على بعد امتار منها، تقف زنبقة ترتعش متألمة للسعة من نحلة هبطت عليها لتمتص رحيقها من أكثر أعضائها حساسية وأهمية. عسل النحل ينتجه عمل دءوب وصبور وفاضل ولكن ليس من دون تعذيب لهذه الزهور الناعمة والخلابة. ثم هناك هذه الشجرة التى ينتشر النمل فيها ويقيم مستوطناته، وأخرى يسكنها الذباب والقواقع والحشرات».
مثل أى زائر ينبهر بالطبيعة، بهذه الكائنات التى تحيا بتناقضاتها متعايشة وفى جو رحب ومناظر رائعة كثيرا ما وجد الشاعر ليوباردى نفسه مندفعا للبحث عن الحقيقة، حقيقة العلاقات بين هذه الكائنات الحية وبعضها البعض، وبينها وبين النباتات، وبينها جميعا وتقلبات الطقس. ظهر فى البداية كمن يبحث عن سر السعادة، ليكتشف أن هذا المكان تعيس. ويخرج واثقا من أنه إذا سأل كل حشرة وحيوان وإنسان فى هذا المكان الرائع الخلاب سيقول له، «أفضل لى لو لم أخلق فى هذا المكان».
●●●
أختلف مع ليوباردى لأننى أعتقد أنه لو كنا تركنا الطبيعة تعيش معنا لكانت حياتنا امتع ومعيشتنا أسعد. تبنيت هذا الاعتقاد ربما لأننى تعرفت على الطبيعة عندما كانت مهيمنة، أما وقد اخترنا الانفصال عنها واعتدنا الاعتداء عليها حتى خرجت أجيال من صلبنا لا تعرفها ولم تعش فى أحضانها، فالمرجح أن يشتد التغول ضدها.
●●●
لن تنتصر الطبيعة ولكنها، بطيبتها وكرمها وحكمتها، تعرف كيف تنتقم.