أحمد دومة: استهداف الأسطورة
أهداف سويف
آخر تحديث:
الخميس 2 أكتوبر 2014 - 7:50 ص
بتوقيت القاهرة
كانت نيتى أن أعاود هذا الأسبوع الكتابة عن المحاكمة الشعبية لإسرائيل وعن شهادات الشهود، وتقرير المحلفين، وبالذات لأنى متأكدة أن التصاعد الكيفى للعنف الإسرائيلى الذى نشهده فى غزة ومدن فلسطين المحتلة، مع تنامى الخطاب العنصرى والتحريضى فى المجتمع الإسرائيلى سيكون له تبعات مباشرة على أحوالنا فى مصر. لكنى، مع العودة إلى البلاد، حتى بعد غياب فقط ثلاث ليالٍ، أجد المشهد المصرى طاغيا لدرجة تجبرنى على التركيز عليه. عندنا اليوم دواع كثيرة للقلق، من مشروعات القوانين القامعة التى تُسَنّ، للمعارك العسكرية الغامضة التى يستشهد أبناؤنا فيها دون أن نفهمها تماما، للمشروعات الاقتصادية الضخمة التى نشعر أننا قفزنا فيها ربما دون التأكد تماما من أرضيتنا، لرجوع الخبر شبه اليومى عن وفاة مواطنين فى مقار متفرقة من المنظومة الأمنية ــ وغيرها. والقضية التى تجمع الكثير مما هو مقلق فى أحوالنا هى قضية السجناء، فهى القضية التى تضرب مباشرة فى ثقة الناس بمنظومة العدالة ــ العمود الفقرى للمجتمع، وهى التى تكرس الأزمة القائمة بين الحكومة وقطاعات من الناس آخذة فى الاتساع.
الأزمة، كما كتبنا من قبل، تتخطى «الإرهابيين»، و«المحظورين»، وحتى الناشطين الذين ترى الحكومة أنها على خلاف سياسى معهم، وتمتد إلى قطاعات من الشباب لم يكن مسيسا، وإلى أسرهم التى تمر الآن فى خبرات غير مسبوقة من القهر النفسى والمعاناة الجسدية والضائقة المادية. وعندى شهادات فى هذا أشارككم فيها فى الأسابيع القادمة. لكنى أستأذنكم ــ أى أنى أستأذن أصدقائى السجناء فى أماكن الحجز المختلفة وأسرهم ــ أستأذنكم فى أن أكتب اليوم عن أحمد دومة ــ ليس لأنه «نجم»، لكن لأن هناك ما يقال عنه، ويجب أن يقال قبل فوات الأوان.
أحمد دومة محبوس فى ليمان طرة لما يقرب من عام. أضرب عن الطعام ضمن حملة «جبنا آخرنا» ثم قرر مؤخرا أن يعلق إضرابه (بمحضر رسمى) حتى يتوصل لمسكن لآلام قرحة المعدة والإثنى عشر وحالة القئ المستمر التى يعانى منها. طبيب السجن كتب له علاج ٦ حقن فى اليوم لا تأتى بنتيجة، وطبيب المجلس القومى لحقوق الانسان قرر أنه يجب أن يدخل إلى الرعاية فى مستشفى غير مستشفى السجن. والطب الشرعى قال يعمل فحوصات وبعدها نقرر. والداخلية لم تمكن الطب الشرعى من الفحوصات. وقاضى قضية مجلس الوزراء أصدر قرارا بمنع خروج دومة من ليمان طرة لأى مكان إلا بإذنه - ولم يعط الإذن.
أحمد دومة يجب أن ينقل إلى الرعاية فى مستشفى غير مستشفى السجن، وفى الحال. وإن لم يحدث يكون ما يحدث له مساويا للقتل العمد مع سبق الإصرار.
أريد أن أذكركم بأحمد دومة وهو ما زال بحمد الله حى بيننا. أذكركم أن هذا الشاب الصحفى، الشاعر، ذو الابتسامة الواسعة، صاحب الـ٢٦ عاما، يناضل نضالا سياسيا لخير هذا البلد منذ ١٠ سنوات، أى منذ كان فى السادسة عشرة. كان عضوا مؤسسا فى حركة «كفاية» وأغلب الحركات المعارضة منذ ٢٠٠٤، وهو عضو المكتب السياسى لائتلاف شباب الثورة والمتحدث السابق باسم الائتلاف، وعضو مؤسس وعضو المكتب السياسى بحركة شباب من أجل العدالة والحريّة، ومؤسس حركة شباب الثورة العربية. وأذكركم أنه، فى هذه السنوات العشر، سُجن تحت حكم جميع الأنظمة التى عايشها. الشاب عمله سياسى وعلنى، ويتمتع بجاذبية وقبول كبيرين، وبقلم سلس جميل ــ فى الحقيقة سأترك المجال هنا لشهادتين كتبهما اثنان من الشباب حول دومة فى الأيام القليلة الماضية. الشهادة الأولى من وائل متولى، زميل دومة فى ليمان طرة:
«من ٣ شهور ونص ماكنتش اعرف دومة، كنت شفته مرة واحدة فى مسيرة فى ٢٠١١ لمدة ٣ دقايق، ووقتها هزر معايا وقاللى «انت عارف انت هنا ليه؟» وانا وقتها رديت عليه «لأ، انت عارف انت هنا ليه؟» يوم ١١ يونيو ٢٠١٤ اكتشفت ان فى مصر يوجد إنسان أسطورى فى الجدعنة اسمه أحمد دومة، إنسان زى أمراء الأساطير وحكايات زمان، عنده ابتسامة تنسيك همومك، ومستعد يقعد حافى وجعان وحران عشان يديك الشبشب اللى حيلته والأكل اللى فى زنزانته والمروحة بتاعته عشان يخليك تحس بشوية راحة تنسيك ان انت فى السجن..
كل يوم الصبح فى أول ١١ يوم فى الحبسة (ممنوع الخروج من زنزانة الحبس الانفرادى فى خلال الأيام دي) كان دومة بيعدى عليا الصبح ويبص لى من النضارة (الشباك الصغير اللى فى باب الزنزانة) ويقوللى صباح الخير تحب اعملك فطار ايه؟ وبعد الأكل يقوللى عايز تشرب قهوة؟ ويديهالى فى فنجانه الصينى (عشان اشرب القهوة بمزاج) ويفضل يجيبلى مية ساقعة كل شوية ويتخانق عشان يدخلوا لينا مراوح سقف وشفاطات فى الزنازين... يدينى واحدة من مخدتين معاه والعصير اللى عنده فى الزنزانة..
لما ابتدينا نخرج من الانفرادى يسمع فى يوم إنى نفسى اقعد نص ساعة زيادة بره الزنزانة فيتفق مع الشاويش يدخله بدرى ويدينى الوقت بتاعه بره..
لما عرف انى ما باعرفش آكل طبيخ وما باكلش رز أو مكرونة (دينا، زوجتى، بتطبخ أكل صحى بقالها ١٣ سنة) يبقى مشكلة حياته اليومية حيعملوا أكل إيه لوائل؟ لما حس بعد شهر اننا كلنا تعبانين ان مدة الحبس فى الزنزانة أكتر من ٢٢ ساعة كل يوم وانهم مانعين دخول الراديوهات ومراوح بوكس وجوابات من أهلنا قرر لوحده يضرب عن الأكل عشان تحسين أوضاعنا إحنا.. وفعلا بعد يومين بقينا تدريجيا ناخد ساعة زيادة كل أسبوع لغاية ما وصلنا لـ ١٨ ساعة بس جوة الزنزانة الانفرادية.. ودخلت راديوهات.. وفضلت الغلاسة على المراوح البوكس. يروح يجيبلى فى يوم مروحة ويقوللى انه اتصرف فيها وأنام مرتاح لأول مرة من يوم ما دخلت السجن.. ولما أصحى الصبح اتفاجئ ان هو سابلى مروحته وجاب لنفسه مروحة مكسورة حاول يصلحها ولما اقوله لأ ما ينفعش يحلف عليا ان هو ده اللى حيحصل..
ممكن اقعد اكتب هو كان بيعمل إيه معانا كل يوم، وقد إيه هو كان حاطط مهمة أساسية فى يومه انه يخلينا كلنا مرتاحين.. وهو أصغر واحد فى السن فينا.
حكايات كتير كتير ممكن اقولها.. شخص بيحب الحياة وبيحب الناس وبيحب مصر أكتر من أى حد شفته.
اللى يضايق القلب ويوجعه ان بعد ما الواحد يشوف المخلوق الأسطورى ده وهو ما بيبطلش حركة من أول اليوم لآخره، يشوفه فى آخر اسبوعين نايم على الأرض مش قادر يتحرك، وكل ما يشرب شوية مية يرجعهم.. يسمع تأوهاته المكتومة بالليل ومش قادر يعمل له حاجة. أميل عليه وابوس راسه وأقول له: ياريتنى كنت أنا مكانك يا دومة.
يوم ما أفرجوا عنا احنا التلاتة (علاء ونوبى وأنا) كنا مش عايزين نروح وعايزين ندخل السجن نقعد معاه شوية. مش عايزين نروح.. عايزين دومة..
لما تحس انك لما خرجت سبت حتة من قلبك جوه مرمية على الارض، وهى مكانها فوق راسنا.
دومة: الحرية مالهاش طعم من غيرك. الحرية ملهاش طعم وانت مش معانا. أكبر شرف حصل لى فى حياتى انى عرفتك، ولو فيه حكاية ممكن أحكيها لأحفادى هتكون انى عشت معاك ٩٥ يوم..»
الشهادة الثانية من هشام فتوح:
«طيب عشان مش باحب الناس اللى بتقول الحاجة متأخر أو بعد فوات اﻷوان أو فى «الوقت المناسب»، حابب أحكى القصة ديه دلوقتي:
بعد ٣٠ يونيو وخروج دومة من سجن اﻹخوان، كان حريص إنه يقدم واجب العزاء بسرعة لواحدة ست من عظماء مصر كان قريبها مات قبل ٣٠ يونيو بأيام. البيت فى أول الطريق الصحراوى وفيه حالة حظر تجوال ومظاهرات ومسيرات إخوانية فى كل الشوارع. كان فيه خطورة عليه من الزيارة دى، خاصة إن قبلها بيومين اﻹخوان اتعرضوا له هو ومراته وكانوا حيموتوه بعد ما اتعرفوا عليه فى تاكسى، ولكنه طبعا صمم يروح يعزى.
كانت أول مرة أشوفه؛ شخص قمة فى العذوبة، وقمة فى الصلابة. هيكل عظمى، ولكن صاحب حضور مذهل. قعد يحكى عن تجاربه مع داخلية مبارك وحفلات التعذيب اللى كانت بتتعمل له فى استقبال السجون، وإزاى إن عنده ضلع اتكسر فى سجن إيه ومناخير اتكسرت فى قسم إيه وهكذا، وإنه إزاى كان كل سنة يُستدعى قبل اﻻمتحانات عشان تضيع عليه السنة. كنت متأكد إنى قصاد حد مختلف عن أى حد قابلته أو شفته قبل كده فى حياتي!
المهم جه وقت المرواح، فلقيته بيطلب منى إنى أمشى معاه بعربيتى عشان هو لسه مستلم عربيته الجديدة ومارخصهاش وخايف يتمسك فى لجنة أو حد من اﻹخوان يتعرضله وهو ومراته لوحدهم. وافقت طبعا، وأبص على عربيته «الجديدة» دى لقيت حاجة كهنة كده ومخبطة ومكسرة وحالتها كرب ومن غير فوانيس. قلت له يمشى ورايا عشان عربيتى عالية يمكن محدش ياخد باله منه. أول ما طلعنا الدائرى لقيت لجنة! طبعا أول ما شافوا شكل عربيته وقفوه على جنب، وأنا قلت روحنا فى داهية!
ركنت قدام ونزلت على رجلى ورحت لمراته فى العربية لقيتها مفزوعة ومش عارفة هو فين. كملت مشى ورحت لحد اللجنة عشان أحاول أكلم الظابط، لقيت لمة وهيصة مش مفهومة. قربت أكتر لقيت الكمين كله، ظباط وأمناء وعساكر، ملمومين على دومة وهاتك يا أحضان وبوس وتشكرات وﻻ كأنه أبوتريكة بعد جول الصفاقسي! الناس ماكانوش مصدقين نفسهم إنهم شايفينه حقيقى بشحمه ولحمه، وقعدوا يشكروه عشان هو واللى زيه خلصوهم من اﻹخوان وإنهم ماكانوش طايقين مرسى واللى معاه، وإن لوﻻ اللى عملوه كان زمانهم زى ما هم.
كان فيه بقى أمين شرطة بالذات فضل يشكر فى دومة ويتأسف له لحد ما حكاله إنه كان فى مرة مسئول عن نقله لمحاكمة فى طنطا أيام مبارك ورجعه السجن وحضر حفلة تعذيب له. أمين الشرطة كان متأثر قوى وقعد يقول: إنتم متعرفوش إحنا اتبهدلنا قد إيه أيام يناير ٢٠١١، وإحنا اللى كنا بنشيل كل خـ.. الحكومة، وأنتم رديتولنا الروح دلوقتى وخلاص اتعلمنا من غلطنا. دومة قعد يطبطب عليه.
الحكاية دى مهداة للداخلية وللسيساوية قبل ما دومة يحصل له حاجة. ﻷن فى الحقيقة هو مش هتفرق معاه، إنما إنسانيتنا إحنا هى اللى هتختلف.
«وﻻ تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون».
مطلوب قرار، سريع وعاجل التنفيذ، بإيداع أحمد دومة فى العناية المركزة بمستشفى مدنى. الكل يعرف أن حياته مهددة، والكل يعرف أن اليوم الذى يمر تترتب عليه آثار مزمنة فى صحته. نذكركم مرة أخرى: الدولة السوية، القانونية، مهمتها حماية مواطنيها وليس تدميرهم.