تعداد السكان.. خارطة مصر الوراثية
مدحت نافع
آخر تحديث:
الإثنين 2 أكتوبر 2017 - 10:50 م
بتوقيت القاهرة
انتظرت طويلا حتى يطلق الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء بيانات التعداد السكانى الذى بدأ العمل فيه منذ أربع سنوات. كان الزملاء داخل الجهاز حريصين كل الحرص على عدم الإفصاح عن أى بيان قبل عرض النتائج على رئيس الجمهورية. منذ أيام فقط أطلق الجهاز بيانات التعداد فى حفل مهيب حضره رئيس الدولة وعدد كبير من الوزراء، أعلن خلاله كل من تحدث فى الحفل عن أهمية المعلومات وحرص الدولة على إتاحتها من أجل استفادة الجميع منها، لكن وحتى كتابة تلك السطور لم أجد سبيلا إلى بيانات التعداد على الموقع الرسمى للجهاز! حدث بهذه الاهمية كان يجب أن يتصدر الصفحة الرئيسة للموقع، وأن تغطى مؤشرات التعداد وكلمات الحضور وتوجيهات الرئيس بتشكيل لجنة عليا لمتابعة بيانات التعداد.. على جميع التفاصيل الأقل أهمية وسخونة على موقع الجهاز! لم أجد شيئا.
بالطبع لا ينتقص هذا التأخير فى النشر من جهود المئات الذين عملوا على إتمام هذا العمل الضخم، وحرصوا على أن يتم بصورة إلكترونية لمواكبة متطلبات العصر والحد من مخاطر تدخل العنصر البشرى قدر المستطاع. وبمناسبة العمل على التحول الإلكترونى للتعداد أذكر عام 2002 أنى كنت اعمل محللا للنظم بشركة كبرى بسلطنة عمان وكنا نقوم حينها ببرمجة أجهزة لوحية محمولة لاستخدام التعداد السكانى كما قمنا بتدريب الباحثين عليها، وكنت أعجب لماذا لا تقدم مصر على تلك الخطوة، لكن أن تأتى متأخرا خير من ألا تأتى أبدا.
لا يتسع المقال ولا المعلومات التى حصلت عليها تسولا من الأصدقاء لتحليل مفصل، لكن النظر إلى أبرز البيانات التى وقف عليها تعداد 2017 يعطى العديد من الدلالات السريعة للباحثين فى التغيرات الحادة بخارطة الجينات الوراثية للمجتمع المصرى، خاصة إذا اتسع التعداد السكانى ــ بالتعريف ــ ليشمل حصرا لجميع الأفراد المواطنين والأجانب الموجودين على قيد الحياة داخل الدولة خلال فترة العد، مع جمع بيانات الخصائص الديموغرافية والاجتماعية والاقتصادية لهم.
***
اقترب عدد السكان المصريين من 94,8 مليون نسمة بمعدل نمو سنوى 2,56% عن الفترة من 2006 إلى 2017 مقارنة بمعدل نمو سنوى 2,04 خلال الفترة من 1996 إلى 2006 ما يعنى زيادة معدلات النمو السكانى على الرغم من زيادة معدلات الفقر ومؤشراته خلال الفترة المذكورة. الأمر لا يتصل فقط بتحسن الرعاية الصحية المسئول عن خفض أعداد الوفيات، وتراجع الوعى الإنجابى المسئول عن زيادة معدلات المواليد، بقدر ما يتصل بالغرض من زيادة المواليد فى هذا البلد الفقير. الزيادة السكانية خاصة فى المجتمعات الأكثر فقرا والأقل تعليما تعكس إدراكا مختلا لحقوق الطفل فى بعض تلك المجتمعات، وتحوله صغيرا إلى عنصر من عناصر الإنتاج لإعالة الأسرة أو مصدر من مصادر الثروة والدخل إذا ما تم تزويج الفتيات القاصرات كما اتضح من بيانات التعداد وإشارات رئيس الجمهورية (40% من الإناث يتزوجن دون الثامنة عشر وفقا لتصريحات نائب وزير الصحة والسكان!). ثبات نسبة توزيع السكان بين الريف والحضر لا يعبر بالضرورة عن توقف الهجرة إلى المدن وانحسار عناصر الطرد فى الريف، بقدر ما أراه معبرا عن تفاوت معدلات الزيادة السكانية لصالح الريف وخاصة فى صعيد مصر الذى صار مفرخا للسكان وطاردا لهم فى آن. هنا يجب أن تتجه سياسات الدولة نحو التنمية الشاملة المستدامة لقرى الصعيد وغيرها من المناطق الأكثر فقرا فى الريف والحضر (العشوائيات) ولكن وبنفس الأهمية يجب إنفاذ القانون لتجريم وتشديد العقوبة على استغلال الأطفال، وحرمان الأسر منهم كما يحدث فى الدول المتقدمة.
الطفل الذى يجب أن يشكل عبئا على رب الأسرة حين يتكفل بطعامه وشرابه وتعليمه وعلاجه..أصبح يولد فقط ليكون عبئا على الدولة والمجتمع، فيحرم من حقوقه وطفولته فى بيت أبيه، ويحرم من جودة ما تكفله له الدولة النامية من خدمات، ويتحول إلى عنصر إنتاج منعدم الكفاءة والتأهيل والتعليم، صفر فى المنافسة على فرص العمل المحدودة محليا ودوليا.
الفرصة كامنة فى الخطر كالمعتاد، فالمجتمع المصرى الفتى الذى تشكل نسبة السكان دون 15 عاما ما يناهز 34,2% من تركيبته، ويشكل الشباب بين 15ــ29 عاما ما نسبته 26,8% من مجموع سكانه، يمتلك طاقة كبيرة ــ تماما كالمفاعل النووى ــ يمكن توظيفها للتشغيل والنفع العام، أو استخدامها للتفجير والدمار الشامل. فالتعليم والتأهيل لسوق العمل يحسن استغلال تلك الطاقة، أما عمالة الأطفال وزواج القاصرات إلى غير ذلك من صور انتهاك حقوق الإنسان لا يخلق سوى أفواه مفتوحة فى أحسن الأحوال، ثم ينتج عقولا فارغة، سرعان ما يملؤها التطرف والإرهاب وأوهام الثراء السريع.
وإذا كانت نسبة الأمية قد بلغت 25,8% فلا نهمل تحويل تلك النسبة إلى قيمة مطلقة، لأن ربع السكان فى دولة يقترب تعدادها من 100 مليون مواطن يخلق كتلة حرجة من الأوعية الفارغة المعدة للتخريب الإقليمى وليس المحلى فقط، ما يجعل محو أمية تلك الملايين فرضا إنسانيا لا على الدولة فحسب، بل وعلى مختلف الدول والمنظمات المعنية بالحقوق وبإحلال السلام.
***
شيوع استخدام الهاتف المحمول بين السكان بنسبة 65,4% لا يعكس تحسنا فى مستويات الرفاهة بقدر ما يعبر عن زيادة الاعتماد على تلك الوسيلة لإنجاز كثير من الأعمال، كثيرا ما تجد عاملا بسيطا يحرم نفسه من كثير من الأساسيات للحصول على هاتف نقال لتسهيل التواصل مع عملائه ومشغليه. هنا يجب ألا يخضع المواطن المضطر إلى استخدام خدمات الاتصالات ــ والكهرباء أيضا ــ إلى الممارسات الاحتكارية للشركات المملوكة للدولة أو للقطاع الخاص فى غيبة شبه تامة للأجهزة الرقابية.
عدد المصريين المقيمين بالخارج يفوق تعداد كثير من دول المنطقة، فنحو 9,5 مليون مصرى يعيشون فى الخارج معظمهم فى الدول العربية بغرض الحصول على فرصة عمل أفضل. هذه الكتلة التى نشأ جانب منها وتربى فى الخارج وفقا لنظم دول أكثر تطورا وربما أكثر ثراء وحسب، تمثل فرصة مزدوجة للاقتصاد المصرى. تصدير قوى العمل يعود بتحويلات العاملين فى الخارج من العملة الأجنبية، كما يعود بمستويات تعليم وتدريب وتأهيل يحظى بها كثير من المقيمين فى الخارج ولا تتوافر لنظرائهم فى مصر. هذه العقول المهاجرة التى أثر غيابها سلبا على الدولة الطاردة، ما زال بإمكان مصر الاستفادة منها، ولا أرى أهمية لوجود وزارة للهجرة وشئون المصريين فى الخارج سوى البحث فى بدائل الاستفادة من تلك العقول. فلو أن نهضة مصر الحديثة قد اعتمدت بشكل كبير على البعثات التى أوفدها محمد على باشا خارج البلاد، فتلك بعثات حديثة طردتها الظروف لكنها تتوق إلى خدمة مصر بشتى السبل.
بلغت نسبة الوحدات السكنية الخالية إما لوجود مسكن آخر أو لكونها بدون تشطيب أو مكتملة لكنها بعد غير مسكونة نحو 29,1% من عدد الوحدات فى مصر (12,5 مليون وحدة سكنية) ! وهو مؤشر خطير على فقاعة عقارية حذرت منها كثيرا والآن تدعمها البيانات. فلو أن الدولة قد أعملت سياساتها الضريبية (ضريبة عقارية عادلة) وسياسات الاستثمار لتشجيع «بدائل» الاستثمار العقارى، فسرعان ما تتاح تلك الوحدات المغلقة للعرض فى السوق، لتمثل صدمة كبيرة وفائض عرض ينتج عنه تراجع كبير ومفاجئ فى أسعار الوحدات السكنية. لكن لو لم تعمل الدولة أدواتها، فهى تغذى بذلك تلك الفقاعة، وتعزز التحول شبه التام نحو الاقتصاد الريعى.
***
مازال هناك الكثير من البيانات التى يمكن أن تقرأها بعين الباحث المدقق، ولكن المقال لا يتسع والبيانات المتاحة حتى كتابة تلك السطور غير تفصيلية، لذا بقى أن أثنى على دعوة الرئيس بضرورة تشكيل لجنة عليا لمتابعة وتحليل بيانات التعداد فى أسرع وقت ممكن، وأضيف إلى هذا مطلبا عاجلا بضرورة إتاحة بيانات التعداد وأعمال اللجنة للجمهور دون تأخير.