منطق «كسر العظم».. ومخاطره

سمير العيطة
سمير العيطة

آخر تحديث: الأحد 2 أكتوبر 2022 - 8:40 م بتوقيت القاهرة

كان واضحا أنّ العودة إلى الاتفاق النووى مع إيران لن يُكتَب لها النجاح. إذ نصّ الاتفاق الأساس أن تزوّد روسيا إيران بالوقود النووى اللازم لمفاعلات الطاقة التى شيّدتها، بدل أن تقوم إيران بتخصيبه وتصنيعه. والأهم أن روسيا هى التى كانت ستسحب الوقود «المستهلك» (النفايات) لإعادة معالجته، خاصةً وأن هذا الأخير هو الذى يحتوى على البلوتونيوم الذى يُمَكِّن من تصنيع القنابل النوويّة بسهولةٍ أكبر. بالتالى، لا معنى لعودة الاتفاق النووى دون توافقٍ بين الولايات المتحدة وأوروبا مع روسيا كى تضمَن هذه الأخيرة آليّة الوقود وإعادة معالجته، والحدّ الأدنى من الثقة. واللافت أنّ المفاوضات الأخيرة فى فيينا لم تتطرّق صراحةً لهذه الضمانات.
لقد ذهبت الثقة المطلوبة بين هذه الأطراف أدراج الرياح مع تفجّر الحرب فى أوكرانيا وعليها، والتى يبدو أنّها ذاهبة إلى منطق «كسر عظم» طويل الأمد أبعد بكثير من موضوع إيران. بعد انهيار الاتحاد السوفيتى، كان المفترض أن تبقى العلاقة بين أوكرانيا وروسيا... استراتيجيّة، بما أنّ روسيا هى التى تُشيِّد مفاعلات الطاقة الذريّة الأوكرانيّة وتزوّدها بالوقود وتعالج «نفاياتها»، كما يتطلّب «أمن المنشأة» تعاونا بين خبراء ومراكز أبحاث البلدين لمعالجة أيّة إشكاليّات قد تنشأ خلال التشغيل.
لكنّ الصراع القائم، قد أطاح اليوم بأيّة إمكانيّة لعلاقات «استراتيجيّة» بين البلدين. والمعارك المحتدمة حول محطّة زابوروجيا، أكبر محطّة نوويّة فى القارة الأوروبيّة، تُبقى الكثير من علامات الاستفهام. فمن الذى سيؤمّن الوقود ومعالجة «النفايات» للمحطّات النوويّة الأوكرانيّة؟ أهى الولايات المتحدة، لمفاعلات لم تصنّعها هى؟ وكيف سيتمّ التعامل مع إشكاليّات التشغيل التقنيّة؟ علما أنّه لا يجب الاستهانة بهذا الجانب، إذ إنّ نصف المحطّات النوويّة الفرنسيّة متوقّفة نتيجة «إشكاليّات تشغيل» بسيطة، ما يجعل الرئيس الفرنسى يحذِّر شعبه من تقنينٍ للكهرباء هذا الشتاء، فى حين يعتمد إنتاج الطاقة الكهربائيّة فى فرنسا على الطاقة النوويّة (70%) أكثر بكثير من اعتماده على الغاز... الروسى وغيره.
بل تمّ أخذ الصراع على أوكرانيا إلى أبعد من ذلك فى مجال الاستخدام... السلمى للطاقة النوويّة. إذ تمّ «احتلال» محطّة نوويّة عسكريّا. وهذه سابقة تاريخيّة. وتمّ أيضا قصف هذه المحطّة، أو بالأحرى بعض المنشآت المحيطة بها، فى حين تُشكّل هذه المنشآت جزءا من تجهيزات أمان التشغيل. وهذه أيضا سابقة. هكذا ذهبت جميع الأطراف إلى «لعبة» خطرة... من الصعب توقّع نتائجها. ولا يُشكِّل قبول هذه الأطراف بتواجد مراقبى الوكالة الدوليّة للطاقة الذريّة فى محطّة زابوروجيا سوى نوع من الضمانة ألاّ تذهب «اللعبة» إلى ما لا يُمكِن ضبطُه.
• • •
كان الحماس لاستخدام الطاقة النوويّة لإنتاج الكهرباء قد انطلق قويّا بعد فورة أسعار النفط فى 1973 (أكتوبر) و1979 («الثورة» الإيرانيّة). وتمّ تطوير مفاعلات غير تلك التى استخدمت لإنتاج السلاح النووى، لا تتطلّب تخصيبا كثيفا لليورانيوم. وطوّرت معها أساليب الحفاظ على الأمان، وتستمرّ دوما، استفادةً من الحوادث المتتالية فى «ثرى مايلز أيلان» (الولايات المتحدة) وتشرنوبيل (الاتحاد السوفيتى، أوكرانيا اليوم) وفوكوشيما (اليابان). لم يكن رخص كلفة الإنتاج هو الدافع الوحيد (رغم الاستثمار الأولى الكبير)، بل أيضا إنّها أكثر حفاظا على البيئة ولا تنتج غازات دفيئة كما النفط أو الفحم ما يأخذ إلى الكارثة المناخيّة التى بدأت شعوب الأرض جميعها تعيشها اليوم وتعيها بوضوح.
تمّ تشييد العديد من المفاعلات فى الدول الصناعية، رغم تخوّف شعوب هذه الدول من الطاقة النوويّة، وارتباطها فى الذهنيّات بقنبلتى هيروشيما وناجازاكى فى اليابان. وقد لعبت الحساسيّة لضرورة «الاستقلاليّة» عن البلدان المنتجة للطاقة الأحفوريّة دورا أساسيّا فى تقبّل تسارع هذا التشييد، كما بيّنت حوادث معامل الكيمياء «العاديّة» أنّ المخاطر متواجدة فى جميع النشاطات وما يهمّ هو إجراءات التأمين تجاهها.
حتّى أنّه تمّ منذ سبعينيات القرن الماضى عرض «تصدير» مفاعلات نووية لإنتاج الطاقة إلى كثيرٍ من الدول النامية، كمصر والجزائر... وسوريا. ومن هنا أتت قصّة المفاعل الإيرانى الذى بدأ تشييده منذ عهد الشاه بعد أن التزمت إيران بمعاهدة عدم انتشار الأسلحة النوويّة. وفى خلفيّة هذا التوجّه، كان هناك بالطبع فكرة أنّ العلاقات ستضحى استراتيجيّة بين الدول المصنّعة للمفاعل، المزوّدة للوقود والمعالجة للنفايات وبين الدولة المستفيدة من إنتاج الطاقة. ما سيساهم فى ترسيخ «السلام العالمى» والابتعاد عن الانخراط فى تجربتى الهند وباكستان اللتين انفردتا فى مسارهما وأصبحتا قوّتين عسكريّتين نوويّتين. هذا التوجّه «السلمى» لم يُكتَب له النجاح فى منطقة الشرق الأوسط سوى مؤخّرا، ربّما لانعدام الثقة بالدول التى عرضت تشييد المفاعلات والتى كانت قد شيّدت لإسرائيل مفاعلها النووى العسكرى وأعطتها الضوء الأخضر لقصف مفاعل «أوزيراك» العراقى بعد انتهائه وقبيل تحميل الوقود النووى. واليوم انخرطت الإمارات فى مشروعها النووى بتعاون استراتيجى مع كوريا الجنوبية والولايات المتحدة وشرعت تركيا ومصر فى مشروعهما مع روسيا الاتحادية.
• • •
اليوم، أعادت الأزمة المناخيّة، وكذلك أزمة الطاقة العالميّة، القناعة بأنّ لا بديل للطاقة النووية لإنتاج الكهرباء إلى جانب وسائل الإنتاج النظيفة (من الرياح والشمس). وذلك حتّى لدى أحزاب الخضر فى دولٍ كألمانيا وأوروبا. إلاّ أنّ بعض الدول الصناعية تواجه صعوبات فى التوجّه للعودة إلى الطاقة النوويّة لفقدان الاستثمار فى الخبرات لوقتٍ طويل.
الأهمّ من ذلك أنّ الصراع فى أوكرانيا قد أخذ الأمور بعيدا عن أسس التعاون الاستراتيجى الضرورى على الصعيد العالمى للاستخدام السلمى للطاقة. ليس فقط حول محطّات الطاقة فى أوكرانيا ذاتها، بل فى الاستفزازات المتبادلة حول استخدام النووى كسلاح. فماذا لو وصل الاستفزاز إلى الصين التى شيّدت مفاعلات نوويّة فرنسيّة فى أراضيها؟
لا بدّ من إخراج الحرب فى أوكرانيا وعليها من منطق «كسر العظم» والتصعيد فى الاستفزازات. روسيا وأوكرانيا لهما تاريخٌ مشترك، وكذلك روسيا وأوروبا بشكلٍ عام. فما معنى المواجهة بينهما حتى «النهاية»؟ واستمرار جميع الأطراف الفاعلة فى النهج القائم يهدِّد «السلام العالمى»، وكذلك تعاون أى من هذه الأطراف مع بقيّة دول العالم. ومن هنا حذر الدول الأخرى فى الانخراط إلى جانب هذا الطرف أو ذاك فى صراعٍ لا تُحمد عقباه إذا ما استمرّ. خاصّةً وأنّ كثيرا من الأزمات العالميّة مجمّدة اليوم، على حساب الشعوب، لغياب توافقٍ بالحدّ الأدنى بين الولايات المتحدة وروسيا والصين، سواء تلك التى تنطوى على صراعات داخليّة كفلسطين وسوريا أو الأزمة المناخيّة المهددّة للبشريّة جمعاء.
لا أحد يستفيد من منطق «كسر العظم» فى أوروبا سوى القوى التى... «تصطاد فى الماء العكر».

رئيس التحرير السابق للوموند ديبلوماتيك النشرة العربيةــ ورئيس منتدى الاقتصاديين العرب

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved