لا تشعلوا الحرائق بتسجيلات ناصر

محمد بصل
محمد بصل

آخر تحديث: الجمعة 3 أكتوبر 2025 - 2:31 ص بتوقيت القاهرة

لعبٌ بالنار، تمارسه بعض وسائل الإعلام العربية في اللحظة الخطيرة الراهنة من عمر شعوب المنطقة، عندما تجتزئُ مقاطع مسجلة للزعيم الراحل جمال عبدالناصر وهو ينتقد سياسات الرئيس الجزائري الأسبق هواري بومدين عام 1970 وخطاب إعلام بلاده ضد مصر كما ينتقد أداء القيادة السورية بعد هزيمة يونيو 1967، وذلك خلال لقاء عقده مع الرئيس الموريتاني مختار ولد داده في القاهرة قبل وفاته بثلاثة أسابيع. وهو تسجيل أذاعته أولًا عبر "يوتيوب" قناة Nasser TV وثيقة الصلة بأسرة ناصر.

هذه تسجيلات لا تسريبات! وفحواها ليس بجديد. فجميع محاضر تلك اللقاءات والخطابات متاحة على الموقع الخاص بأرشيف عبدالناصر التابع لمكتبة الإسكندرية والذي عاد للعمل بكفاءة منذ بضعة أشهر. ومن السهل على أي باحث أو صحفي الاطلاع على النصوص الكاملة للمحادثات، بما يعطي صورة أشمل عن سياقها وخلفيات حديث الزعيم الذي يبدو عنيفًا أو ساخرًأ في بعض الأحيان لأسباب عديدة تناولتها بالتفصيل عشرات المؤلفات.

فلا تخفى على أحد العلاقة المتوترة والشد والجذب بين عبدالناصر والقيادتين في الجزائر والعراق خلال السنوات الأخيرة من حياته، ولقد تعددت تفسيراته والتلميحات على لسانه إلى الأسباب المحتملة وقتها، ومنها عدم إدراك بعض الزعماء لطبيعة المعركة بعد الهزيمة المروعة، واستسهالهم الحديث عن "استراتيجية الهجوم لا الدفاع" و"دعم المقاومة الفلسطينية لشن حرب عصابات في الأراضي المحتلة من مختلف الدول المحيطة"، إلى جانب مزايدة بعض القادة على القاهرة والهجوم على قرار عبدالناصر بقبول مبادرة روجرز، واستشعارهم أنه يميل إلى بدء محادثات سلام مع إسرائيل ورفضهم لذلك، كما نلمح في حديثه مرارة من تصوره لرغبة البعض في انتزاع زعامة الأمة العربية.

تلك الأسباب نجد صداها في جميع محاضر لقاءات عبدالناصر بالقادة العرب في عامي 1969 و1967. ليس فقط في الاجتماعات الثنائية التي يتحدث فيها عن أطراف غائبة، كحديثه في التسجيل المنتشر مؤخرًا، بل أيضًا في القمم العربية العادية والطارئة بحضور الجزائرييين والعراقيين أنفسهم. أي أن الأمر في حينه لم يكن سرًا وبات في حكم المعلوم بالضرورة بعد سنوات من نشر د. هدى عبدالناصر لمئات الوثائق المكتوبة من محاضر وخطابات ورسائل، وكذلك معالجة بعض تلك الأحداث في كتب الأستاذ محمد حسنين هيكل.

ومع الخلاف الجذري بين عبدالناصر وحزب البعث وتشككه في اتجاهات بعض المحيطين ببومدين، لم يصل الأمر لأبعد من المناوشات الكلامية، كجزء من مناخ عام متوتر في المنطقة، ومحاولة القاهرة للتعامل بواقعية بعيدًا عن أوهام دفعت من قبل ثمنًا فادحًا لها.

بعد أكثر من نصف قرن، تقتضي الاعتبارات الأخلاقية والمهنية التعامل بأمانة مطلقة وحساسية فائقة مع تلك الوثائق والتسجيلات. ليس بإخفائها بالطبع، بل بتصنيفها وعرضها وإتاحتها كاملة، وشرح سياقاتها وأسبابها، حتى لا تتحول بفعل فوضى مواقع التواصل الاجتماعي إلى قنبلة متجددة الانفجار.

أرشيف أهم زعيم عربي نعمة كبرى للباحثين والإعلاميين والمهتمين، وهي معينٌ لا ينضب من محفزات الأفكار الجادة فضلًا عن تسليطها الضوء –بذاتها- على فترة من أهم مراحل تاريخنا القومي. فلماذا نحول النعمة إلى نقمة نتيجة الاجتزاء والتوجيه والتركيز على بعضها دون الآخر؟! بل والسعي إلى "صنع الترند" أو "ركوبه" أو استغلاله لتسويق مواقف سياسية حالية!

الحقيقة عارية. لا أحد في سوق الإعلام يجهل سهولة المتاجرة بالحساسيات القديمة بين الشعبين المصري والجزائري، فتجديد إشعالها بين الحين والآخر سيؤدي إلى زيادة المشاهدات والتفاعلات من جانب المكاسب المادية، لكنه أيضًا يزيد الاحتقان الشعبي بلا مبرر وعلى خلفية أحداث تجاوزها الزمن يجب أن نستفيد منها سويًا لا أن تزيد الشقاق بيننا.

يكتظ أرشيف عبدالناصر بانتقادات لبعض ملوك العرب، أكثر حدة وتكرارًا من نقده لبومدين، فهل من الحصافة تسليط الضوء على بعض تلك الانتقادات ونشرها على أوسع نطاق دون تصريحات أخرى له في فترات التفاهم والتنسيق؟! فهذه طبيعة العمل السياسي بين صعود وهبوط وتقارب وتباعد، وكم من مواقف نلحظ تغيرها وتطورها ونضوج صناعها أو تعديل اتجاهاتهم، ليس من وثيقة واحدة بل ببحث موسع وموضوعي.

الاجتزاء والاقتطاع جريمة في حق التاريخ والمستقبل. أما التعامل المراهق مع الوثائق فلا يعدو كونه تلاعبًا بعقول البسطاء.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved