القلم الذى لم يخضع لملك!
ناجح إبراهيم
آخر تحديث:
الجمعة 2 نوفمبر 2018 - 11:10 م
بتوقيت القاهرة
مرت ذكرى عباس العقاد منذ عدة أيام مرور الكرام، لم يعره أحد اهتماما لا الدولة ولا الإعلام ولا الأزهر ولا الحركة الإسلامية ولا القنوات الفضائية، على الرغم من عبقريته وجهل أكثر الشباب به فكل ما يعرفه أغلب الشباب فى مصر عن عباس العقاد أنه شارع فى مدينة نصر.
العقاد كاتب الشرق الأول وأعظم من أمسك بالقلم فى القرن العشرين، وهو الكاتب الوحيد الذى لم يخضع لملك ولا لحاكم، ولم يجامل مسئولا فى حياته فى الوقت الذى مدح فيه الموتى والفقراء والبسطاء لأنه آمن بعبقريتهم.
فمن أهم معارك العقاد السياسية معركته مع القصر الملكى والملك فؤاد وكان يومها نائبا فى البرلمان وأراد الملك حذف عبارتين من الدستور المصرى، أولاهما: «الأمة هى مصدر السلطات» والأخرى: «الوزارة مسئولة أمام البرلمان» فإذا به يرفع صوته تحت قبة البرلمان وعلى رءوس الأشهاد:«إن الأمة على استعداد أن تسحق أكبر رأس فى البلاد يخون الدستور ولا يصونه».
فإذا بهذه الكلمات تودعه السجن بتهمة العيب فى الذات الملكية، ويدافع عنه فى المحكمة المحامى المسيحى الشاب مكرم عبيد بمرافعة رائعة.
وقد كتب ذكرياته فى السجون المصرية ومن يقرؤها يدرك أن نفس ما جرى له فى عصر الملك فؤاد جرى فى السجون المصرية فى كل عصور مصر، سواء فاروق أو ناصر أو السادات أو غيره، وذلك لأن نفس العقلية التى تدير السجون وقوانينها لم تتغير إلا فى لحظات نادرة فى تاريخ مصر، وكأنك ترى الزمان يعيد نفسه.
وقد كتب العقاد قصيدة رائعة فى السجن يتحدث فيها عن تجربته بدأها باستهلال رائع:
وكنت جنين السجن تسعة أشهر *** فهأنذا فى ساحة الخلد أولد
وختمها ببيت رائع قاله بعد خروجه من السجن :
وعداتى وصحبى لا اختلاف عليهم *** سيعهدنى كلٌّ كما كان يعهد
العقاد أكثر من خاض معارك فكرية وأدبية وسياسية طاحنة فصار له أصدقاء كثر وخصوم أكثر،وتلاميذه فى كل مجال وخصومه كذلك، وذلك لأنه كان لا يجامل أحدا، وكان كالسيف فى حدته وشدته وتمسكه برأيه واعتداده بذاته وفكره.
لم يجامل العقاد الملك فؤاد ولا فاروق ولا عبدالناصر وتصدى لهتلر وفكرة النازية فى وقت مجد هتلر وعنفوانه ويوم أن كان الألمان وروميل فى «العلمين» وهدده هتلر بمشنقة تليق بطوله، فذهب للسودان حتى انتهت الحرب العالمية الثانية.
وتصدى للشيوعية والشيوعيين فى وقت عزهم وصولتهم ورفعة الاتحاد السوفيتى، وتصدى للإلحاد والملحدين وقد كانوا كثرة فى عهده.
وتصدى للإخوان بعد قتلهم لصديق عمره النقراشى باشا وكانوا وقتها ملء السمع والبصر وكان وحده فلم يخف من بأسهم وصولتهم.
حتى إن بعض تلاميذه غضبوا منه لأنه لم يجاملهم أو يعطيهم فوق حقهم، وممن أغضبهم العقاد سيد قطب حينما رفض أن يكتب له مقدمة لأحد كتبه على غير عادته مع تلاميذه لأنه رأى أن طريقته فى منهج التناول تبتعد عن الصواب وأنها قد تفهم خطأ فى المستقبل أو توضع فى غير موضعها، وصدقت نبوءة العقاد فى تلميذه النجيب سيد قطب الذى امتلك قلما ساحرا ولكنه لم ينضبط فى مسائل العقيدة فى كتاباته فساقها بأسلوب أدبى فضفاض يحبذ العزلة عن المجتمع والانفصال عنه ويدعو ضمن ما يدعو إلى تكفير الحكام والمجتمع والبرلمان.
العقاد كره أن ينضوى تحت لواء أحد ففى الوقت الذى انضوى فيه جمال عبدالناصر ومعظم أعضاء مجلس الثورة إلى الإخوان رفض هو لأنه يأبى أن يكون أداة فى يد أحد أو تابعا لأحد.
العقاد الذى لم يمدح الحكام مدح الموتى لأنهم عباقرة، ومنهم: أبو بكر الصديق، عمر بن الخطاب إمام العدل السياسى والاجتماعى، وخالد بن الوليد، وعلى بن أبى طالب وذو النورين والحسين سيد الشهداء، وسانت تريزا صانعة الخير،غاندى الحكيم، وسعد زغلول.
لقد أبصر العقاد بعقله عمق الهجمة العلمانية والشيوعية الشرسة التى تريد إهالة التراب على كل نماذج التاريخ الإسلامى العظيمة مثل أبى بكر، عمر، عثمان، على، والحسين، وخالد، ومعاوية، وعمرو بن العاص، فضلا عن الأنبياء محمد والمسيح وإبراهيم «عليهم السلام» وإحلال نماذج مثل لينين وماركس وغيرهما بدلا منهم، فشمر عن ساعد الجد «فاستنطق الماضى واستنزل هذه الشخصيات من عصورها وكأن عمر بن الخطاب موجود بيننا يحل مشكلات عصرنا «هكذا عبر المرحوم رجاء النقاش عن طريقته فى نصرة الحق والحقيقة، وإنصاف العباقرة، فالعقاد أول وأعظم من كتب عن المسيح «عليه السلام» وكل الذين كتبوا عنه عيال عليه.
وكان العقاد لا يكتب عن عبقرى حتى يعشقه ويذوب ذوبانا فى شخصيته ومواقفه.
لقد كان العقاد أول من هزم النازية والشيوعية، وتنبأ بانهيار الاتحاد السوفيتى، ومن قبله هتلر فى أوقات نصرهم وغلبتهم.
لقد عبر العقاد عن مسيرة حياته الصعبة فقال: «لى أصدقاء وأعداء بحمد الله، لقد حاربت الطغيان والفوضى، ومذاهب الهدم والبغضاء، والتبشير، وحاربت التقليد الأعمى والدجل المريب باسم الدين، والجمود والرجعية، والأحزاب والملوك، وهتلر ونابليون والمستعمرين، والصهيونية، وأعداء الأدب القديم، لقد حاربت هؤلاء جميعا، فالتقى على محاربتى أناس من هؤلاء وهؤلاء «صهيونى إلى جوار نازى أو فوضوى إلى جوار رجعى إلى ملحد، إلى جانب حامل اللحية المزيفة باسم الدين إلى جانب الماركسى من اليسار والمبشر من اليمين.. فحمدا لله أن أرسل علىّ هذه السيوف المشرعة من كل جانب لكنه أسبغ علىّ الدروع التى تتكسر عليها تلك السيوف، فقال رب الجنود: «أنت قدهم وقدود».
كان العقاد لا يهاب الموت وكان يردد: «إذا فاجأنى الموت فى وقت من الأوقات، فإننى أصافحه ولا أخافه، بقدر ما أخاف المرض، فالمرض ألم مذل لا يحتمل، لكن الموت ينهى كل شىء» سلام على العقاد فى العالمين الذى أنصف الأنبياء وأعلى ذكرهم وأنصف نماذج الصحابة المشرفة وأعلى ذكر الحكماء.