موقعة المهرجان وثقافة مقاومة التطبيع
يحيى قلاش
آخر تحديث:
الجمعة 2 نوفمبر 2018 - 11:00 م
بتوقيت القاهرة
منذ زيارة السادات للقدس ثم توقيع اتفاقية «كامب ديفيد»، وقضية مقاومة المصريين للتطبيع حية متجددة، فكلما طلت علينا موجة من موجاته يستنفر الجهاز المناعى للضمير الجمعى للمقاومة والقضاء على مظاهر العلة. وكل مرة يتأكد لنا أن الجسد لايزال بخير، ولايزال يدرك بفطرة تراكمت عبر آلاف السنين، كيف يبدع وسائل مقاومته، لذلك لم يكن جديدا علينا عندما تبدأ أعراض التطبيع الرسمى العربى تطفو البثور على السطح تحاول أن تخترق أو تشوه.
وأخيرا أثيرت قضية التطبيع عندما حاول بعض المسئولين عن تنظيم مهرجان القاهرة السينمائى استضافة مخرج فرنسى ذى ميول وعقيدة صهيونية. ووجدنا من برر ومن تحمس لتسويق الفكرة متصورا أن جذوة رفض التطبيع قد خبت وأن الأجواء أصبحت مهيأة، ودارت الأسطوانة عن قيمة المخرج العظيمة، وكيف سيضيف للمهرجان ويضعه فى مكانة عالمية لائقة!! ثم عندما بدأ البعض فى لفت النظر إلى ميول هذا المخرج الصهيونية، استمعنا إلى أغرب رد، وهو أننا سوف نؤدى بأنفسنا إلى العزلة إذا رضخنا لآراء الرافضين، الذين وصفهم البعض «بالحنجورى»!! أى أصبحت المقاطعة، ورفض التطبيع، التى نستخدمها سلاحا لعزل الكيان العنصرى والاستيطانى، وفضح ممارساته هى التى يمكن الآن أن تعزلنا ومناسبة تستحق السخرية من المعارضين!
وعلى الرغم من أن إرادة المقاومة والوعى، هى التى انتصرت فى واقعة المهرجان، لكن يجب أن نتوقف عند صمت رموز بعض النقابات المهنية، التى تقدمت صفوف هذه المقاومة على مدى العقود الماضية، ومنها النقابات الفنية التى تقدمت بقية النقابات الأخرى، عندما وصل بها الأمر لشطب بعض أعضائها الذين خالفوا قرارات حظر التطبيع من جداول القيد، كما فوجئنا بارتباك مواقف وردود فعل آخرين مما لا يشكك أحد فى مواقفهم ونواياهم، ومن هنا تأتى أهمية الدعوات التى خرجت تطالب بإحياء لجان مقاومة التطبيع والدفاع عن الثقافة القومية لنعيد تذكير أنفسنا وشبابنا ــ كل فى المكان الذى ينتمى إليه ــ بتاريخ مقاومة التطبيع فى النقابات المهنية والعمالية والأحزاب والمؤسسات الشعبية.
ففى نقابة الصحفيين لم تحظ قضية باهتمام، كما حدث مع قضية حظر التطبيع مع الكيان الصهيونى، حيث تفاعلت جمعيتها العمومية مع هذه القضية على مدى زمنى يساوى نصف عمر النقابة!.
كانت البداية، عندما اشتدت معارضة الرئيس الأسبق أنور السادات، بعد قراره الذهاب إلى إسرائيل، ثم توقيعه اتفاقية «كامب ديفيد»، وشرعت أقلام الصحفيين المصريين فى انتقاده، وشهدت النقابة أنشطة أثارت غضبه، فطالب بفصل بعض الذين يهاجمون سياساته، ويكتبون ضد «كامب ديفيد»، لكن النقيب وقتها كامل زهيرى رفع شعار «العضوية كالجنسية»، بل ذهب مجلس النقابة إلى أبعد من ذلك فقرر «حظر التطبيع النقابى» مع الكيان الصهيونى، وفى مارس عام 1980 صدقت الجمعية العمومية للصحفيين على هذا القرار، وكانت أول نقابة مهنية تتخذ هذا الموقف، وتبعتها بعد ذلك بقية النقابات المهنية والعمالية.
والمفارقة التى يجب التوقف عندها هى أنه كلما كانت تشتد الضغوط الرسمية لتفعيل قرارات التطبيع، وكلما ازدادت الحجج المختلفة تحت دعاوى «المهنية» أو المشاركة فى «هجوم وثقافة السلام»، ازداد تشدد الجمعية العمومية للصحفيين فى صياغة قرار حظر التطبيع، فامتد الحظر إلى «التطبيع المهنى»، ثم إلى «التطبيع الشخصى»، وعندما خالف بعض الصحفيين والكتاب هذا القرار، وذهبوا إلى إسرائيل، أو التقوا إسرائيليين كلفت الجمعية العمومية مجلس النقابة بوضع أسس المحاسبة والتأديب للمخالفين.
وظلت الجمعيات العمومية تؤكد على هذه القرارات حتى مارس ٢٠١٣، ثم فى مارس ٢٠١٥ أضافت: «.. واعتبار الدخول إلى أى منطقة تقع تحت سلطة الاحتلال الصهيونى أو التنسيق مع سلطات العدو بأى شكل تندرج تحت الحظر وإحالة من ينتهك هذه القرارات للتأديب».
كنا نمارس الحوار حول هذه القضية على أرضية عدم التخوين، وألا يأخذنا الانفعال الذى ينسينا أننا زملاء ننتمى لنقابة رأى ونمارس مهنة ضمير، وأن مواقفنا النقابية أمر لا يدعو إلى الاعتذار أو الخجل أو التنابز، وتمسكنا بعقيدة ألا تتحول النقابة إلى حزب سياسى أو أن توظف لحساب تيار معين، لكن يظل كل ما هو وطنى ومشترك تقبض عليه الجمعية العمومية وتتمسك به وتحرسه وتحاسب عليه.
لكننا فى الوقت نفسَه نحتاج إلى مراجعة بعض «أكلشيهات» شائعة يرددها أنصار التطبيع من بعض زملائنا مثل «نقابة للخدمات فقط»، و«المهنية أولا»، وكأننا عندما ندافع عن قرار حظر التطبيع نمارس فعلا فاضحا أو يراد لنا أن ننسى أننا نقابة رأى ومهنة ضمير، ثم إننا على مستوى الأداء المهنى لم يبلغ بنا الكمال إلى الحد الذى لم يعد ينقصنا فيه إلا أن نتذكر هذه المهنية، ونحن نلوك أحاديث التطبيع، فالزملاء الذين انخرطوا فى تحالف كوبنهاجن منذ نحو عقدين أو الذين ذهبوا إلى إسرائيل أو التقوا إسرائيليين بتكليفات سياسية أو باتفاق مع قيادات فلسطينية، لم يفعلوا ذلك من أجل المهنية، ثم لماذا لا تحضرنا هذه «المهنية»، وصحافتنا غائبة عن متابعة أحداث دولية وإقليمية وعربية كبرى، بل إن كثيرا من صحفنا أهملت تغطية أحداث مهمة لا تبعد عن القاهرة إلا بضعة كيلومترات!.
كما ظل بعضنا يدفع بحجة ممارسة الحوار مع الآخر، وأن وسائل الإعلام والصحفيين والمثقفين جزء من أداة هذا الحوار، والمثير أن الآخر دائما هو الكيان الصهيونى ومؤسساته، وليست مصالحنا العليا فى الحوارات العربية ــ العربية الغائبة أو الموصومة دوما بعدم الثقة، والممتدة فقط بين كل دولة عربية وإسرائيل بطريق مباشر أو غير مباشر، وليست كذلك حواراتنا المطلوبة مع قوى إقليمية، وغيرها من حوارات مهملة أو أدوار أصبحت فى ذمة التاريخ!.
أيضا علينا أن ندرك أن متغيرات وتطورات كثيرة حولنا الآن فى المنطقة، ستدفع إلى علو صوت دعوات التطبيع لتتصدر المشهد، ولن يكون مستغربا استمرار الضغوط وظهور بثور التطبيع هنا أو هناك فى محاولة لكسر حالة المقاومة خاصة والمنطقة يعاد ترتيبها، ومطلوب الانتهاء من ملف العلاقات الكاملة بين إسرائيل والدول العربية، التى تساق لمراحل ما بعد التطبيع!
وهنا لا بد أن أتوقف عند واحدة من أهم المعارك النقابية والفكرية والسياسية فى تاريخ الصحافة المصرية، ففى أغسطس عام 1997 أصدر مجلس النقابة قرارا بإحالة الزميل المرحوم لطفى الخولى والزميل د.عبدالمنعم السعيد للتحقيق، لمخالفتهما قرارات الجمعية العمومية بحظر التطبيع، وفى ٢٣ من الشهر نفسه كتب الدكتور محمد السيد سعيد مقالا فى الأهرام بعنوان «نقابة الصحفيين ضمير جماعى أم روح قطيع؟!» انتقد فيه قرار النقابة باعتباره قيدا على حرية التعبير وأثار المقال ردود فعل واسعة وكان بداية حملة صحفية كبيرة شاركت فيها كل الأقلام المهمة والرموز النقابية والصحفية من مختلف الأجيال فى الصحف والمجلات قومية وحزبية وخاصة، وقمت بحكم عضويتى بمجلس النقابة بمتابعة وحفظ جميع تفاصيل هذه الحملة، ومعى من الجمعية العمومية الزميل الراحل خالد السرجانى، وقام النقابى والوطنى المرحوم صلاح الدين حافظ بنشر كل ما جمعناه من مادة فى عدد خاص بمجلة الدراسات الإعلامية التى كان يرأس تحريرها وتصدر عن المركز العربى الإقليمى للدراسات الإعلامية للسكان والتنمية والبيئة، تحت عنوان «معركة الصحافة والتطبيع»، لتكون فى خدمة الذاكرة النقابية.
وشمل الملف قراءة وتحليل مضمون للحملة أكد أن رصد المواد الصحفية التى شملتها هذه المعركة الصحفية أظهر دون عناء أن أنصار التطبيع داخل مهنة الصحافة أقلية ضئيلة للغاية.
والحقيقة أن الراحل الدكتور محمد السيد سعيد، الذى أكن له تقديرا كبيرا، وأؤكد أنه لم يخالف يوما قرار النقابة على الرغم من انتقاده، هو الذى فرض جدول أعمال هذه المعركة، وطرح أهم الأسئلة والأفكار التى دار الحوار حولها، مثل ما هو التطبيع؟ وما هى حدوده؟ وهل قرارات الجمعية العمومية مجرد توصية أم لها صفة الإلزام؟ وهل توقيع عقوبة على أى من يخالف هذه القرارات مصادرة للحرية وملاحقة للضمير ووأد للاعتقادات السياسية والفكرية؟ وهل منوط بالنقابة لعب دور سياسى عام، أم لا بد أن يقتصر دورها على الشأن النقابى فقط؟ وهل يجوز أن تلعب دورها العام خارج إطار قانون البلاد؟
ورد نقيبنا كامل زهيرى مدافعا عن قرار المجلس وقرارات الجمعية العمومية بحظر التطبيع، لأنها تمت عبر آليات ديموقراطية ملزمة لكل أعضاء المنظمة النقابية، وأكد أن النقابة تحاسب على سلوك وفعل نقابى لمن يخالف قراراتها لكنها لا تحاسب على الرأى، وقال إن هذه القرارات من صميم صالح مهنة تعمل بالرأى، وتتفاعل مع الوجدان والضمير الوطنى فى كل عملها.
ورفض صلاح عيسى زعم البعض أن تكون وراء من أصدروا القرار دوافع سياسية، وقال: قرار الجمعية العمومية ملزم وليس توصية والادعاء بغير ذلك هو دعوة للقضاء على النقابة وتقويض لبنيانها، وقال: «لا أظن أن هناك علاقة بين الالتزام بقرارات النقابة وبين حرية الرأى حتى لو كان الأمر الذى صدر بشأنه القرار مما يدخل فى نطاق الآراء مثل قرار حظر التطبيع، إذ من البديهى أن هذه القرارات قد صدرت بعد مناقشات حرة واحترامها وتنفيذها واجب على الجميع، ومن يعترضون على تعريف التطبيع عليهم المشاركة فى مساعى عقد الجمعيات العمومية، لكى يحاولوا إقناعها بتغيير تعريفها للتطبيع، وأكد النقيب جلال عارف أن موقف الصحفيين من التطبيع واحد من المواقف العظيمة لهم اتخذوه على الرغم من الضغوط وتمسكوا به، وها هى الأيام تثبت صحة موقفهم، وقال إن النقابة لا تحاسب أحدا على رأى آمن به، وإنما على سلوك قام به، وقال فهمى هويدى إن البعض يخلط بين الالتزام بقوانين الدولة والالتزام بسياستها، كما أن اعتبار قرارات الجمعية العمومية مجرد توصيات يجافى المبادئ الديمقراطية، فضلا عن أنه يعد ازدراء بالجمعية واستخفافا بقراراتها، وأنه على دعاة التطبيع من أعضاء النقابة أن يعلنوا رأيهم وأن يعبروا عن اجتهاداتهم كيفما شاءوا، ولكن حين يترجم هذا الرأى إلى عمل من أى نوع، فإن الأمر يختلف، والمحاسبة المهنية والنقابية تصبح واجبة، وقال إنه لا يوجد أى تعارض بين قرار أو قانون النقابة وقوانين البلاد، لأن قوانين الدولة تبيح للنقابات أن تحدد ضوابط السلوك المهنى لأعضائها، وأن النقابات حين تدافع عن قرارات جمعياتها العمومية، إنما تدافع فى الوقت ذاته عن ضمير الجماعة التى تمثلها.. وانتهت هذه المعركة، بانتصار منطق الضمير الوطنى والمهنى والنقابى.
وهذا ما حدث أخيرا فى «موقعة المهرجان»، التى تصدت لها نخبة من المثقفين والنقاد والسينمائيين والصحفيين.
إننا أحوج ما نكون اليوم، إلى تذكير أنفسنا بثقافة المقاومة وإعادة الروح إليها، فمنذ اغتصاب أرض فلسطين يتأكد لنا كل يوم أننا أمام قضية وجود، وليس أمامنا إلا أن نتمسك بما تمليه علينا ضمائرنا، ومصالح أوطاننا، وأن نتسلح بما نملكه من وعى.