تحدث كالمصريين
العالم يفكر
آخر تحديث:
الثلاثاء 3 فبراير 2015 - 8:50 ص
بتوقيت القاهرة
نشر موقع أيون، المتخصص فى مجال العلوم والثقافة، مقالا مطولا للكاتب جرايسون كلارى، والذى لديه العديد من الكتابات وعروض الكتب فى مجال الحضارات القديمة، حول نهاية الحضارة الإنسانية مستشرفا ذلك من خلال ما وصلت إليه الحضارة الفرعونية التى امتدت آلاف السنين، محاولا إيجاد حل لتجنب اندثار ثقافة الحضارة الانسانية. يتأمل الكاتب عصر الدولة الحديثة المصرية. عاذرا تفكير المصرى حينها فى أن دولته تقع فى مركز الخلق، نواة نظام يرتكز عليه العالم المعروف. فإذا كان يعيش فى عهد رمسيس الثانى، فإن بلاده تحكم بالفعل شمال شرق أفريقيا طوال نحو ألفى سنة. وبعد أن هزم رمسيس الثانى الحثيين فى قادش، ثبت وضع مصر باعتبارها القوة العسكرية المتفوقة فى المنطقة، التى كانت بالنسبة لأى مصرى فى ذلك الوقت، الجزء المعمور بالناس من الكون. وهذا، على الأقل، ما ستظهره الروايات الرسمية. وسوف تزين الأوصاف الرنانة للمعركة المعالم الأثرية فى جميع أنحاء الإمبراطورية.
ويشير كلارى إلى تفكير الأوساط العلمية مؤخرا فى المخاطر الوجودية الطبيعية والتكنولوجية التى تهدد البشر: كويكب يتجول، وانطلاق أشعة جاما فى توقيت مؤسف، وارتفاع درجة حرارة الأرض. مؤكدا أنه يجب على العالم أيضا أن يبدأ بالتفكير فى إمكانية نهاية العالم ثقافيا. وتعتبر الحالة المصرية كاشفة بالنسبة للكاتب، فهى عصر من الاستمرارية المذهلة، يليها الاندثار المفاجئ. وهو سقوط يستحق الأخذ فى الاعتبار. ومن ثم على العالم أن يكون مستعد لاحتمال أن الجنس البشرى يمكن ألا يصبح لديه ذات يوم ذكرى ميلتون، أو موتاون. ومن المرجح نجاح الفكر المستقبلى إذا تزود بجرعة من علم المصريات.
•••
وكان الجدير بالذكر حجر رشيد الذى اعتبره كلارى اكتشاف معجزة صغيرة لكونه حجرا ثلاثى اللغات. ففى السنوات التى تلت اندثاره، رفض مصرى الكشف عن أسراره أمام حملة بقيادة غير سليمة لفك الشفرات. وسوف يقرأ العلماء المزيفون المعانى الغربية الاستعمارية فى منجل، والأربع أرجل لأسد، وقصبة هوائية وقلب. وتتمثل خدعة اللغة، بطبيعة الحال، فى أنها ليست مسجلة صوتيا بالكامل ولارمزية تماما.
ويوضح الكاتب أننا لم نكن لنسمع عن الفراعنة وكتاباتهم حتى وصل إليها الباحث الفرنسى جان فرانسوا شامبليون بعد أكثر من ألف عام لإنقاذها. وقد تم تشويه قصة هذه المعجزة. ففى عام 1798 اجتاحت جيوش نابليون مصر، يرافقها فرق من العلماء، تعثروا فى حجر رشيد. وسوف يسلمون الحجر بعد ذلك إلى البريطانيين، ولكن سوف يتم تعميم نسخ مصبوبة له بين المتاحف والعلماء الأوروبيين، ومن بينهم شامبليون. وأصبح الحجر رمزا رومانسيا لفك شفرة، ولكنه، مع كل الاعتبارات، اعتبره كلارى نصا بيروقراطيا مملاً. غير أنه يدين بالأثر الرومانسى إلى ضرورة بيروقراطية، حيث يسجل الحجر نفس الرسالة ثلاث مرات، فى ثلاث مخطوطات، كانت إحداها مفهومة فى زمن نابليون. وحفظ الحجر ما أمكن إنقاذه من الذاكرة الثقافية لحضارة بأكملها. فكانت آلة الزمن التى سافرت بها مصر القديمة إلى المستقبل.
•••
يوضح كلارى أنه عند إعداد أرشيف لشخص غريب، من الضرورى أن نأخذ فى الاعتبار شروط الاكتشاف. فكم من المعلومات التى يحتاجها المتلقى ليكون الأرشيف مفيدا، أو لمعرفة أن هناك أرشيفا من الأساس؟ ويشير ما قال بوستروم له بأنه سيكون من السهل التواصل مع الكائنات المتقدمة. «أعتقد عمليا أن أى سجل نتمكن من إنشائه ويمكننا أيضا قراءته، سيكون مفهومًا لحضارة متقدمة فى المستقبل، شريطة أن نحافظ على جزء كاف من النص». وأيضا ما طرحه ساندبرج من ملاحظة إيجابية مماثلة: «لقد عرفنا نحن البشر كلا من رقصات نحل العسل ومسارات رائحة النمل».
وتعمل مؤسسة «ذا لونج ناو» فى سان فرانسيسكو على حل هذه المشكلة. فقبل 18 عاما، تم وضع الأساس لبناء ثقافة التفكير على المدى الطويل للغاية. كان الطراز الآمن فيه، كتابة تاريخ عام 2014 - لحل مشكلة عام 10000، وترك مساحة للألفية الحادية عشرة حتى المائة. وتسعى مؤسسة «ذا لونج ناو» للعمل بعكس طريقة علم الآثار. فتبنى «التحف المتعمدة» من أجل غرس الأسرار فى العالم من أجل المكتشفات. حيث إن الصيغ الرقمية تتدهور بسرعة بالغة، وقد تحملت البرديات المصرى مصاعب الزمن، ومن ثم على البشرية التعامل بالمثل على مقياس الألفيات.
ويشبّه كلارى نظام حجر رشيد بالقرص المدمج، إلى أقصى حد عملى، حيث يحمل أقصى قدر من وضوح. ويحتوى قرص نيكل بقطر 2.8 على أكثر من 13 ألف صفحة بأكثر من ألف و500 لغة. ويجب أن تحمى كرة زجاجية القرص ضد الضغط الخارجى، والتمزق وفساد العناصر. مشيرا إلى ولشر التى ترأس مشروع رشيد، أن هذا ليس المكتبة نفسها، وأنها تطلق على «حلقة الفك» أو «كتالوج البطاقة». وأن الخريطة، وليس الأراضى ــ وسيلة لـ(إعادة) الكشف، فى حالة فقدان كل ماعداها.
وتعتبر مشكلة التصميم على مدى فترات زمنية كبيرة جدا، صعبة، خاصة إذا كانت المسئولة عن المحفوظات لا تفترض امتلاك جمهورها شيئا من المهارات اللغوية والتطور التقنى. وهو تساؤل يطرح عند مناقشة مواقع النفايات النووية: كيف يمكنك توصيل معلومة «لا تحفر هنا» عبر الزمان، إلى أناس لا يفهمون معظم المعالم التى لديك؟ ويبين ما قد اقترحه البعض من إقامة منحوتات بشعة فوق هذه المواقع، ولكن يمكن أن تفسر تلك المنحوتات على أنها تختبئ كنزا.
ووجدت المؤسسة لهذه المشكلة حلا أنيقا، نقشا مختصرا عنوانه «لغات العالم» بالإنجليزية والإسبانية والروسية والسواحيلية والعربية والهندية، والماندرين والإندونيسية. وطالما عاشت واحدة من تلك اللغات، سيظل العنوان على القرص - «اقرأنى!»- مقروءا. ولكن أين يوضع؟ إذا لم يكن التوزيع الشامل لأنحاء العالم ممكنا (الأقراص غالية الثمن إلى حد ما)، يجب أن يكون التواصل وفقا لأهمية القطع الأثرية. ولنأخذ على سبيل المثال القرص فايستوس، الغامض الذى تم وضعه تحت قصر المينوية فى جزيرة كريت اليونانية. حيث ظلت رموزه بلا حل، ولكن كانت قيمته العالية واضحة بسبب دفنه تحت قصر. وطالما تعاملنا مع التحف المتعمدة لدينا بدرجة معينة من تقديس، سوف يتعامل معها من يقومون بإعادة اكتشافها فى المستقبل بنفس الدرجة من التقديس.
•••
وفى النهاية يعتبر كلارى الحل فنيا لدرجة ما فقط. فحتى الورق يعتبر كافيا من الناحية الفنية على مدى الألفيات القليلة المقبلة. ويتمثل التحدى فى تحقيق أقصى قدر من البعث إلى الحياة. وقد اصطدمت القراءة والكتابة فى مصر لتحرس الكتابة الهيروغليفية بحرص شديد. ومن ثم فالوصية الأولى التى نستمدها من النظرة المستقبلية لمصر القديمة، سوف تكون الابتعاد عن المفردات الميتة بأى ثمن. وبعبارة أخرى، اكتبوا من أجل الإنسانية.