سوانح عابرة عن معرض الكتاب
إيهاب الملاح
آخر تحديث:
السبت 3 فبراير 2024 - 8:05 م
بتوقيت القاهرة
ــ 1 ــ
مضى الأسبوع الأول من معرض القاهرة الدولى للكتاب الـ 55 وما زال رغم كل التحديات والصعوبات والأزمات محتفظا بحضوره الجماهيرى الفذ وبالإقبال الرائع من كل الأعمار والشرائح الطبقية والاجتماعية، وما زال هو العرس الأكبر للمبدعين والمثقفين المصريين والعرب.
هذه الدورة اكتشفت أننى أواظب على زيارة المعرض منذ ست وثلاثين سنة بالتمام والكمال!
يا ربى. لقد كبرت! نعم. كبرت!
لم أكن أفوت يوما واحدا من أيام معرض الكتاب منذ عرفت طريقه فى أرض المعارض بمدينة نصر، وأنا فى العاشرة من عمرى إلى مشارف الخامسة والأربعين!
لا أستغرب هذا الإحساس الجميل المبهج من شباب وشابات (فوق الخامسة عشرة وحتى الثلاثين)، معرض الكتاب بالنسبة لهم «عيد كبير». عيد حقيقى بكل ما فيه، وبكل تداخلاته ومشهده الأشبه بالمولد وصاحبه «ليس غائبا» إنه «الجمهور».
على أيامى فى الثمانينيات والتسعينيات، لم يكن هناك «سوشيال ميديا» ولم يكن العالم بأكمله يطوى بضغطة زر فى نبضات سريعة، وسيولة معلوماتية بالصوت والصورة والبث الحى المباشر!
على أيامى لم يكن هناك هذا الكم الطوفانى الرهيب من الكتاب والإصدارات ودور النشر، على أيامى ولسنوات طويلة كنا نحفظ الأجنحة (أو السرايات كما كانت تسمى فى أرض المعارض القديمة بمدينة نصر)، ونادرا ما كان يتغير شىء.
ــ 2 ــ
خلال الفترة من 2012 إلى الآن تغير كل شىء! كل شىء!
انتقل المعرض من أرض المعارض بمدينة نصر إلى مركز مصر للمؤتمرات بالتجمع الخامس.
لم يعد هناك «سرايات» بل صالات ضخمة، وبينها ما يسمى بـ (بلازا 1 وبلازا 2!) وتضاعف عدد دور النشر بصورة غير مسبوقة، وظهرت أسماء عمرها لم يتجاوز سنة أولى نشر.
توارت دور أخرى عريقة وتاريخية، وتقلص حضورها وتبدد تماما، إما لوفاة مؤسسيها أو وصولها لأحد الورثة غير المعنيين بالمسألة برمتها، ولا يبقى سوى الاسم إن بقى.. هذه سنة الحياة.
وقد أصبحت شاهدا على أفول و«بزوغ» دور نشر ما بين دورة و«ضحاها» فى واحدة من أغرب دورات الحياة، وقوانين تجددها، وتغير مساراتها..
أين بهجة (مكتبة مصر) وكتب نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم ويوسف السباعى ومحمد عبدالحليم عبدالله وإحسان عبدالقدوس وحتى كتب المنفلوطى ومحمد السباعى وثروت أباظة بأغلفة جمال قطب المبهجة!!
ظللت سنوات أواظب على زيارة جناح (مكتبة مصر) لأكمل ما ينقصنى من مجموعة الأعمال الأدبية والروائية والفلسفية والتاريخية والدينية! هكذا كنت آتى على دار نشر بعينها فأقتنى منها كامل ما حددته من عناوين فى كل فروع المعرفة الإنسانية، وليس الأدب والرواية فقط!
الآن هناك دور جديدة وشباب «يفرح» أمواج وراء أمواج.. يحزننى فقط أن الغالبية العظمى منهم تختزل نشاط القراءة فى «الأدب» فقط (وحتى فى الأنواع البدائية منه؛ كتابة التسلية والإثارة والرعب) وتعتبره هو الثقافة لا غير! وهذا غير صحيح أو على الأقل أراه فهما منقوصا لبينية الأدب، واتصاله العميق بكل أنواع وأشكال المعرفة، عموما هذا حديث آخر، ويقتضى تحليلا آخر.
ــ 3 ــ
تعودت كل عام مع انطلاق معرض القاهرة الدولى للكتاب تدوين ما أسميه «يوميات المعرض»، أسجل بكل دقة تفاصيل ومشاهدات كل يوم فى المعرض، مقابلات الأصدقاء وما دار فيها، الفاعليات التى حضرتها، وأخيرا الكتب التى أقتنيتها وإشارات سريعة عنها أو عن السبب الذى جعلنى أقتنيها.
كل ذلك داومت على كتابته لسنوات طويلة (بدأت فى التدوين على ما تسعفنى الذاكرة فى العام 1995 تقريبا)، وما زلت أحتفظ بها حتى اللحظة، لكننى وجدت نفسى منذ سنوات أتوقف تدريجيا حتى فوجئت بأننى فى السنوات الأخيرة لم أعد أكتب عن المعرض كما كنت أكتب من قبل.
قبل ما يزيد على 30 عاما كنت أنفق فى معرض القاهرة للكتاب ــ فى المتوسط ــ نحو ثلاثة آلاف جنيه (نعم، ثلاثة آلاف جنيه، وربما أزيد بألف أو ألفين!!)، أنفقها كلها فى شراء الكتب، ولا يتبقى منها جنيه واحد!
خلال الفترة من 1995 وحتى 2015 كنت أخصص كل عام لمجال معرفى بعينه، أقتنى ما استطعت من كتب مرجعية وتأسيسية، فيه وفق قائمة أجتهد فى إعدادها بنفسى، وقد تستغرق منى شهورا طويلة من الحذف والإضافة والتعديل حتى تصل إلى صورتها النهائية أثناء المعرض.. فعام لكتب التراث العربى، وعام لكتب النقد الأدبى الحديث، ومناهج النقد المعاصر، وآخر للفلسفة والقضايا الفلسفية، وعلوم النفس والاجتماع.. وهكذا
ــ 4 ــ
ستة وثلاثون عاما بالتمام والكمال، لم أنقطع فيها عن زيارة المعرض ولو لمرة واحدة، لكن إحساسى به الآن وتعاملى معه كـ«حدث كبير»، و«مناسبة أنتظرها من السنة للسنة»، و«الموسم الأعظم لشراء الكتب» اختلف اختلافا بينا وجوهريا فى السنوات الأخيرة.. فلم أعد أذهب للمعرض لشراء الكتب فى المقام الأول، لم أعد أجهز قائمة ضخمة بما حددته سلفا، صرت أذهب مباشرة للجناح الذى أريد، والدار التى أقصد أخطف كتابا بعينه أو كتابين على الأكثر، لا أتردد، عينى تمسح الأرفف مسحا كالرادار، تتوقف عند عنوان أو كتاب أعلم أننى سأشتريه فورا ولو دفعت فيه ثمنا كبيرا!
ست وثلاثون سنة، اجتمع لى آلاف الكتب حتى صارت تتوزع بين ثلاثة أو أربعة أماكن متباعدة منها طابقان كاملان فى بيت أبى القديم الذى ولدت ونشأت فيه، ولم أعد أعرف كيف أصل إلى ما أريد، وأصبح شراء نسخة جديد أيسر حال توافرها وإلا... كان الله فى عون المبتلين بعشق الكتب والغرام بها..
أيام وسنوات وعمر يمضى، ولا يتبقى إلا ما نذكره لنرويه، كما يقول ماركيز..
كل سنة وكل معرض وأنتم جميعا طيبون وبخير.