«أو ضد الآخرين»
أهداف سويف
آخر تحديث:
الأربعاء 3 أبريل 2013 - 8:00 ص
بتوقيت القاهرة
فى الطائرة مساء الإثنين، عبر الممر الفاصل بين مقاعدنا، وصلنى حديث تعارف يدور بين رجلين، أحدهما مصرى ويعمل فى شركة كبرى لبطاقات الائتمان، والثانى إنجليزى، ويعمل مع شركة كبرى للمياه الغازية. كان صاحب المياة الغازية هو البادئ، حيث سأل جاره ــ وأنوار القاهرة تظهر تحتنا ــ إن كانت هذه مدينته، فأجاب الآخر بنعم، وسأله بدوره إن كان آتيا فى عمل، وأخذا يتجاذبان أطراف حديث ودى «شَرِكاتى»، لا وجود فيه لأى معلومات شخصية أو أى فضول بخصوصها. وكانت أسئلة الإنجليزى تدور حول الأوضاع والظروف فى مصر (فقط من ناحية توقعات استقرار المناخ للبيزنس)، وأسئلة المصرى تدور حول شركة المية الغازية: نظمها الداخلية، مكانها فى السوق، مديريها، الفروقات الحقيقية ــ إن كان هناك فروقات حقيقية ــ بينها وبين منافستها الرئيسية. ثم خفض المصرى صوته وسأل جاره عن صحة الشائعات حول ارتباطٍ ما بين منتج شركته ومرض السرطان. أخذ الرجل يجيب بالإحصائيات ونتائج البحوث التى تنفى وجود علاقة، لكن الإجابة الفاصلة كانت أن قال إنه، فى النهاية، لا أحد يجبر أحدا على شُرب منتج شركته، كل إنسان حر فى اختياره، والناس ليس فقط تشرب هذا المشروب، بل تدفع المال لكى تشربه. «عن نفسى» قال، «أنا أشرب الماء». معلومة شخصية أخيرا.
طيب، هل نكون محقين لو طالبنا هذا الرجل ــ إن كان عنده شك فى أن السلعة التى يأكل عيشه من صناعتها أو ترويجها هى سلعة ضارة لمستهلكيها ــ لو طالبناه بـ«ماذا؟» بأن يستقيل؟ بأن يعمل على تفنيد الشكوك؟ بأن يشكل جماعة للضغط على الشركة للتعامل بجدية مع المخاطر المحتملة التى يسببها منتجها للمستهلك؟ ما مدى مسئوليته كـ«ترس» صغير فى الآلة الضخمة التى تشمله؟ هذه الإشكالية موجودة منذ بدأ الإنسان ينظم نفسه فى مجتمعات، وقد أدت ــ بشكل أو آخر ــ إلى حركات انعزالية وأخرى إصلاحية كبرى، كما أدت إلى مواقف فردية مشهودة.
كم من الناس هذا الرجل؟ الدنيا مليانة ناس تعمل ــ بدرجات متفاوتة ــ فى أعمال ضارة. بس برضه، أحيانا تبهرنا الرؤيا: بين كل من يقوم بعمل، ما هى نسبة من يعملون لضرر شركائهم فى الحياة وفى الكوكب؟ نسبة من تصب محصلة عمله فى كفة الشر وإن كان بأثقال متفاوتة: بدءا بمن يقومون بتعذيب «البنى آدمين»، إلى صناع السلاح وتجاره، إلى من يتاجرون فى البشر، إلى من يستغلونهم فقط، إلى مدمرى البيئة، ثم من لا يكترثون، ثم.. ثم.. وماذا لو تحول كل هذا، أو جزء ــ حتى ــ منه ليصب فى كفة الخير؟
الصب فى كفة الخير. هذا ما يحاول آلاف الشباب فى مصر، وملايين الشباب فى العالم، القيام به الآن: أن يعيشوا فى اتساق مع مواقف أخلاقية، وأن يلتحموا مع العالم، يوميا وواقعيا، ليعملوا على تغييره، ليكون أكثر إنسانية وأكثر رقة.
امتدح المصرى القديم «القلب المنتبه»، بل كان من أسس الماعت ــ المنظومة الأخلاقية المصرية للحياة الصالحة ــ أن يتلاحم المرء إيجابيا مع ما حوله، فقيل ــ فى مصر فى الألفين فبل الميلاد ــ إن رأيت إنسانا فى الطريق يبكى قف واسأل عما يبكيه، وإن كان بيدك حل مشكلته فحلها. وقيل، فى ٢٠١١ بعد الميلاد وبحسب أخلاقيات ثورتنا: إن رأيت أما تبحث عن ابنها المفقود فقم وابحث معها، وإن رأيت أخا يجاهد فى سبيل حق أخيه الذى استشهد تحت التعذيب فقف معه، وإن رأيت شبابا مدنيا تطبخ له محاكمات عسكرية قم وارصدها واضغط لمنعها، وإن رأيت أهالى يسلبون أراضيهم أو بيوتهم قم وأمنهم، وإن رأيت نساء يتحرش بهن فدافع عنهن، وإن رأيت إعلاما يكذب على الشعب فقم وافضحه، وإن رأيت ناسا يحاكمون ظلما فدافع عنهم، وإن رأيت ناسا يحبسون فى ظروف لا آدمية فأقم لهم لجان الإعاشة، وتذكر دائما من استشهدوا، وصبر أهاليهم وجدد عهدك معهم أن «نجيب حقهم، ونحقق حلمهم».. هذا بعض بسيط مما يفعله شبابنا اليوم، من مدينة نصر لشبرا للقرصاية ورملة بولاق، من اسكندرية للمنصورة لأسوان.
ربما، فى يوم قريب، تتمكن الطبقة السياسية فى مصر من القيام بواجبها وإرساء قواعد تنظيم لإدارة البلاد تواكب الأمثلة المبهرة التى يقدمها لنا شبابنا يوما بعد يوم.
على متن نفس الطائرة كان عرض فيلم توم هانكس الجديد، «كلاود أطلس»، وهو فيلم ماراثونى (ثلاث ساعات) يدور فى ستة أزمنة ذات مظاهر مختلفة من القهر والثورة. ربما أعود إلى الفيلم فى مقال آخر ولكن، ما أوَدّ الإشارة له هنا هو العبارة التى سرعان ما تجد نفسك تنتظرها، والتى تتكرر فى لحظات حاسمة فى كل الأزمنة: «لن أسمح بأن يمارَس القمع الإجرامى ضدى». وقد بدأت مجموعات مختلفة عبر العالم تدعو على النت لأن يتبنى التقدميون فى كل مكان هذا الشعار. أقول إن شبابنا يعيش هذا الشعار، ويضيف إليه، فكل أفعاله تعلن: «لن أسمح بأن يمارس القمع الإجرامى ضدى أو ضد الآخرين».