الجيش الأبيض.. هموم وأحزان
ناجح إبراهيم
آخر تحديث:
الجمعة 3 أبريل 2020 - 10:00 م
بتوقيت القاهرة
المسيح عيسى بن مريم عليه السلام أعظم طبيب على وجه الأرض، وهو الذى جمع الله له الإحياء المعنوى والمادى، وتحدث القرآن مُعظما له «وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيى الموتىٰ بإذن الله»، وكان لا يأخذ أجرا على عمله، وإنما يحتسبه لوجه الله، وكان مؤيدا من السماء فى علاجه للمرضى.
وأرى أن كل طبيب يخلص فى عمله، ويراقب ربه، ويحسن إلى المرضى ــ وخاصة الفقراء منهم ــ له حظ مما أعطاه الله للمسيح بن مريم بحسب اقترابه من رسالة هذا النبى والطبيب العظيم.
الطب ليس رفاهية كما يتصور البعض، هى رسالة الإحياء أعظم رسالة على وجه الأرض، إنها رسالة المسيح عليه السلام.
الدكتور أحمد اللواح التقط العدوى من مريض هندى ببورسعيد، فأصيب مع أسرته، ذهب إلى المستشفى حاول زملاؤه إنقاذه دون جدوى، فارق الحياة، لم يصلِّ عليه سوى طاقم الأطباء من زملائه بالمستشفى، ذهب إلى قبره وحيدا، فقد تم الحجر الصحى على أسرته، هكذا كانت نهاية الشهيد أ.د/ أحمد اللواح، أستاذ التحاليل الطبية بجامعة الأزهر، أما إخصائى القلب والعناية بدمياط فظل طوال الليل ينقذ مريضا توقف قلبه بالعناية المركزة حتى أصابه الإجهاد الكبير فسقط ميتا بنوبة قلبية وعاش مريضه.
هذه هى حياة الطبيب الحقيقية، كفاح متواصل منذ أن تطأ قدمه كلية الطب، وحتى آخر لحظة من حياته، حياة كلها علم وتعلم وتدريب واكتساب خبرات، وإلا وجد نفسه لا يصلح للطب الحديث، فالجرّاح لن يكون ماهرا ومتضلعا من مهنته إلا بعد 10 سنوات من تخرجه من كلية صعبة وشاقة لا تعرف اللعب أو اللهو، أو أن هناك جزءا من المنهج سيلغى أو يحذف مثل سائر الكليات، فأى مرض يمكن أن يجده الطبيب أمامه فجأة مهما كانت ندرته.
أرواح الناس وحياتهم بيد الطبيب والخطأ أو التقصير أو الإهمال مغبته موت المريض أو إعاقته مدى الحياة فالجرّاح يعيش فى توتر دائم مع كل جراحة يجريها، لا يأتيه النوم حتى يستشعر من النواب نجاح جراحته، وجرّاح العظام يواصل الليل بالنهار، ويُستدعى مع كل حادثة صغيرة أو كبيرة وما أكثرها.
الطب هو المهنة الوحيدة الراقية التى يستطيع أى طالب نابغ الوصول إليها دون وساطة ومحسوبية، وهى المهنة الوحيدة التى لا يرقيك فيها مدير ولا مسئول ولكن يرقيك فيها مرضاك فقط، وما زالت مهنة الطب هى حلم الأمهات والآباء وكل طالب فى مصر، فى طليعة الجيش الأبيض الجندى المجهول الذى يواجه الموت بصدره العارى، وينقذ المرضى بعد أن كادوا يفارقون الحياة، يتسلمهم وهم أقرب للموت فيعبر بهم الطريق إلى الحياة والنجاة، إنه طبيب العناية المركزة، والذى يتمتع بصلابة ضابط الصاعقة وقوته وبأسه وعدم يأسه.
وهو الطبيب الوحيد فى الفريق الطبى مع طبيب التخدير الذى لا يبنى لنفسه مجدا خاصا، ولا يذكر اسمه عادة، ويتمتع بسرعة البديهة وقوة الإرادة والقرارات الصحيحة الحاسمة والجازمة والتى لو تأخرت لحظة لمات المريض، وخطؤه الأول هو خطؤه الأخير، فغلطته تساوى موت المريض.
لا أمل له أن تكون له عيادة أو مستشفى باسمه، لا يملك رفاهية العيادات والمكاتب، يعيش ليلا ونهارا فى المستشفيات، لا وقت لديه للترفه أو الحكايات أو قلة التركيز، فهو يتولى الحالات الحرجة فقط، يستحضر الطب كله فى لحظة واحدة فيديره فى عقله ليبحث عن السبب ويشخص المرض وينقذ المريض من الموت المحقق.
الطبيب المصرى يعمل بمرتب تافه وبدلات هزيلة وبإمكانيات بسيطة لم تتحسن نسبيا إلا منذ قرار الرئيس السيسى الأخير، ورغم ذلك يصر على الارتقاء بنفسه فهم أكثر الأطباء فى العالم الذين يحصلون بجدارة على درجات الزمالة من بريطانيا وألمانيا وأمريكا وكندا وفرنسا واليابان، ومن أكثر الأطباء كفاءة فى العالم.
ورأيت وقرأت عن الآلاف من الأطباء المصريين الذين حولوا الطب إلى رسالة سامية عظيمة رفعوها وارتفعت بهم إلى عنان السماء فهذا جرّاح كان يُجرى عشرات الجراحات فى شهر رمضان مجانا، وهذا آخر يظل معظم سنوات خدمته يجرى الجراحات بأجر زهيد، وهذا ثالث لابد أن يتصدق بأجر عدة جراحات للقلب أسبوعيا مجانا بما يوازى مائة ألف جنيه، وقلة قليلة أصابها الجشع والطمع لا يقاس عليها.
٤٢ عاما مرت على الطب المصرى الحديث منذ تأسيس محمد على لأول مدرسة للطب الحديث فى مصر والجيش المصرى الأبيض يواجه المرض بصدر عارٍ وبإمكانيات متواضعة ورغم ذلك يبدع ويرتقى فى كل مكان.
فالطب المصرى من أول التخصصات المتقدمة والراقية فى مصر، فالصناعة المصرية لا تمثل 1% من الصناعة الألمانية أو الأمريكية، أما الطب والطبيب المصرى فكفاءته تمثل 99% من كفاءة الأمريكى والألمانى، بصرف النظر عن الأنظمة الصحية المعمول بها والتى تسبب تخلف الخدمة نفسها، فمعظم الجراحات التى تتم فى ألمانيا سواء فى العين أو القلب أو غيرهما يتم مثلها فى القاهرة، والطبيب المصرى مطلوب فى كل بلاد الدنيا ومرحب به، ويتسابق الجميع على اقتناصه بعد أن تعلم جيدا فى بلاده.
والأطباء المصريون مشهورون فى كل العالم المتقدم فى أمريكا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وكندا وأستراليا، والأسماء أكثر من أن تذكر ويطول المقام لبسطها.
ومعظم الأطباء المصريين هم من الطبقة الوسطى المكافحة، وهى الطبقة الحاملة للقيم والمثل العليا، فلا الفقر أذلها وأيأسها، ولا الغنى أبطرها وأفسدها، ومعظمهم من أسر تشع بالذكاء والحيوية الذهنية فهم من طينة الشعب المصرى.
ويكافح الطبيب المصرى كفاحا كبيرا فى العمل والتعلم ورغم إمكانياته المادية المتواضعة فى بداية حياته إلا أنه أكثر الفئات تصدقا حينما يصيبه اليسر والغنى، فمنهم من لا يتقاضى أجرا من اليتيم ولا المعوق ولا الأرملة، والحقيقة أنه لولا العيادات والمراكز الطبية الخاصة لأصبح الأطباء شحاذون على باب السيدة.
والطبيب المصرى طبيب متميز يعمل فى بيئة طبية غير منظمة، فتُضيِّع جزءا كبيرا من ملكاته وقدراته، وتمنحه مرتبا هزيلا لا يمكنه من العيش الكريم أو التعلم وتحضير الماجستير والدكتوراه بسلاسة وكرامة بدلا من القفز من مستوصف لمركز لعيادة ليلية ليجد قوتا متوسطا لأولاده، ويظل هكذا قرابة 7 سنوات بعد التخرج ليبدأ فى الحياة الكريمة، بعد أن يسهر الليل ويواصله بالنهار ليتعلم الجراحة ويتقنها، فالجرّاح المصرى كفاءته معروفة ومشهود له فى العالمين العربى والغربى.
والغريب أن كورونا هو الذى أنصف الأطباء والعلماء بعد طول نكران لهم، وبعد أن جفاهم البشر وقدموا عليهم آخرين لم يقدموا للبشرية سوى المتعة الزائفة، بعد أن كان قدم لاعب الكرة وهزة وسط الراقصة أغلى بكثير من أجر مئات العلماء والأطباء، فالعالم كله الآن ينظر بتلهف إلى العلماء والأطباء لسرعة إنتاج مصل يقى البشرية من خطر كورونا، كما حدث من قبل مع السل، وشلل الأطفال، والجدرى.
الطبيب المصرى مكبل بقيود كثيرة فى وطنه منها أنه يُحاسب جنائيا على الخطأ الطبى، ويُسجن عليها، ويوضع قيد الحبس مع عتاة المجرمين، ويصيبه الجرب وهو يقضى أيام الحبس الاحتياطى فى السجن، فيُذل ويُهان وهو الذى أحيا الآلاف من قبل، وفى كل محافظة تجد عددا من الجرّاحين محبوسين عاما أو عامين أو هاربين يساومهم محامون احترفوا التلاعب بالمرضى والأطباء.
الخطأ الطبى المفروض أن يعاقب عليه إداريا ومهنيا وماليا فقط وليس بالسجن، هؤلاء الأطباء يدفعون أموالهم وأموال أسرهم من أجل التصالح فى هذه القضايا والنجاة من الحبس، وهذا جعل الأطباء يعرضون عن إنقاذ بعض الحالات الخطيرة التى من المحتمل أن تحدث لهم مضاعفات مكتوبة فى كل المراجع، ولكنها يمكن أن تسجنهم، فمثلا أطباء العيون يعرضون عن عمل جراحة لمريض الجلوكوما المتفاقمة لأن احتمال فقده للبصر كبيرا واحتمال رؤيته صغيرة، فإذا عمى رفع قضية سجن بها الطبيب أو ساومه على أمواله ورزقه فيتركونه ليعمى وحده، ولو لم يكن هناك سجن للأطباء لأنقذت هذه الحالات، أما الإقرارات التى يوقعها المرضى وذووهم فلا يعتد بها حينما تقع الواقعة.
الطبيب يحاول إنقاذ المريض ولكنه قد يفشل فى ذلك فهل يستوى من يهب الحياة للمرضى فيفشل مع القتل الخطأ.
الطبيب ليس بقاتل ولا يتعمد إيذاء المريض، لقد دخل أساتذة وأطباء قسم جراحة السجن جميعا لتكاتفهم سويا، ومحاولتهم إنقاذ حالة صعبة جدا، ولكن محاولتهم باءت بالفشل، وبترت قدمها، واضطروا فى النهاية للرضوخ ودفعوا نصف مليون جنيه للمريض أخذ المحامى ثلثها.
لن تكون هناك كرامة للجيش الأبيض إلا إذا رفع السجن عن الخطأ المهنى، وأصبحت عقوبته مالية وإدارية ومهنية.
تحية للأطباء الشرفاء وطاقم التمريض ومساعديهم.