عطش لم يرتوِِ
خولة مطر
آخر تحديث:
الثلاثاء 3 مايو 2011 - 8:46 ص
بتوقيت القاهرة
عطش هو لا يرتوى ولم يرتو.. عطش كما المشى فى صحراء شاسعة لا واحة فيها ولا سراب ماء.. كان هذا هو حال الكثيرين منا حتى عندما تفجرت ينابيع المياه فى ميادين المدن وارتوت أرضها بالدماء. فاض النبع القادم معها وتحولت فجأة مساحات الظلمة إلى مساحات من البياض الناصع تتلون بألوان قوس القزح مع نهاية موسم الامطار التى اغتسلت بها تلك البلدان التى لم تعرف إلا الصوت الواحد ولم تكن تسمح إلا بالخطاب الواحد..
منذ عشرين عاما ادرك البعض تلك الحاجة الملحة الى الحرية فى الرأى والتعبير وبتلك الحرية للصحافة ليسمع المواطنون خطابات متعددة يختاروا منها كما هو بستان الزهور ما يغويهم ويقربهم وينثر روائحه العطرة فى كل مكان..
راحوا ليجتمعوا فى ويندهوك بناميبيا لصياغة اعلان يعمل على حماية حق من الحقوق نص عليها ذاك الإعلان القديم الجديد فى مادته التاسعة عشر (الإعلان العالمى لحقوق الإنسان) ألا وهو الحق فى حرية التعبير والصحافة.. هناك فى ناميبيا البسوا المادة حلتها الجديدة وأضافوها لقائمة طويلة هـــى بمجملهـــــــا مجموعة الحقوق التى أصبحت اليوم أكثر تكرارا فى حواراتنا اليومية من تحيات الصباح والمساء..
ومنذ أن خرج عام جديد من رحم عام آخر تدثرت مدننا العربية بصراخ أولئك الذين لم يتعلموا على مر السنين سوى لغة واحدة, الصمت والإصغاء حتى الطاعة البغيضة!! هم الذين لم يعرفوا ما هى المادة 19 ولكنهم تعلموها من كثرة صبرهم الذى تعب من الصبر.. وكلما انطلقت صرخة فى شارع أو زقاق أو «زنقة» كلما تعالت الأصوات مجتمعة أنه القديم المتجدد الذى لا طالما حدثناكم عنه فراحت جرائدهم ومحطات التلفزة والإذاعة تحبو خطوة خطوة نحو فتح مساحات أوسع للآراء كما قال ذاك منذ عصور مضت «دع مائة زهرة تتفتح».. هم الذين عرفوا ولسنين أن الهمس ممنوع فما بالك بالحديث والصراخ.. فهم يخرجون من هناك من ذاك المكان المشرق فى العتمة ليتعلموا أولا فن الصراخ ثم يعودون ليتعلمـــوا فن السكــــــوت والســــــــماع والطاعة المطلقة..
بعضهم أدرك ذلك.. أدرك أنه كلما ازدادت المعرفة اتساعا كلما تعددت الخيارات أمام الفرد منا وحينها فقط يستطيع أن يختار بشكل علمى ومنطقى.. ولأنهم أدركوا أن الكثيرين من المتربعين على الكراسى الوافرة لن يسمحوا به فقد حاولوا أن يؤكدوا عليه.. فمع الصرخة الأولى من العام الأول بعد الصمت الطويل تحركت جموع المنظمات الدولية الداعية للحرية ونشر الحق للجميع لتكرار النصح «دعوا شعوبكم تتمتع بحقها» ويذكروهم «أن لها الحق فى التعبير والتجمع والإعلام والصحافة».. لم يفد التذكير ولا العلم بعد السبات الطويل وهم يعرفون لغة واحدة كانت وحتى وقت قريب هى الأكثر فعالية حتى أنهم عندما دخلوا عالم الحداثة عبر وسائل الاتصال الحديثة لم يتصوروا أن الإنترنت وشبكاتها ومواقعها ستنهى تلك اللغة الواحــــــــدة.. فهم قــــــــادرون على قطع أوصالها كلما شاءوا وهم أيضا يحددون كم من المواقع على تلك الشبكة «اللعينة» تفتح وكم منها تغلق وهم أيضا يعرفون بأنهم يملكون الوسائل لقطع الرسائل على البلاك برى وأخواتها.. هم إذن أقوى من كل المدنية والحداثة ربما؟! وهنا يعاد تذكيرهم بتلك المادة اللعينة وبذلك الاعلان قبل عشرين عاما مضت..
•••
فى مثل هذا اليوم بل هذه اللحظة نقطف ثمار تلك النبتة التى زرعت فى ناميبيا لتأتى الريح فتحمل بذورها وتنشرها على ربوع الكون.. لم يستطيعوا مصادرة البذرة ولا الزهرة فكان أن أثمرت حدائق فى مدن العرب الممتدة.. كثيرون هم من قدموا حياتهم ثمنا لهذه الحرية.. هم بالتحديد 500 صحفى خلال العقد الماضى و60 فى العام 2010 وفى كل يوم نسمع عن صحفى هنا ومدون هناك تم إسكاتهم ليبقى الصوت الواحد.. هو عطش لم يرتو بعد.. عطش لا يشبه أى عطش آخر...
فى خروجك الأول صرخة وبعدها تتلو الصرخات تباعا ولكنها ما تلبث أن تخبو شيئا فشيئا لأنهم حتما هناك على مقاعد المدارس المكتظة وفى غرف البيوت الدافئة يعلمونك فن السكوت حتى الصمت المطبق.