أوباما.. إلى من يتوجه بخطابه؟
جميل مطر
آخر تحديث:
الأربعاء 3 يونيو 2009 - 9:45 م
بتوقيت القاهرة
أتمنى ألا تنطبق على زيارة الرئيس باراك أوباما للمملكة العربية السعودية ومصر وخطابه فى الأخيرة الحكمة القائلة إن التوقعات إذا ارتفعت تواضعت النتائج مهما عظمت. وأخشى أن أقول إن التوقعات على جميع المستويات مرتفعة، وهناك خوف حقيقى لدى دوائر مهتمة من أن تأتى الثمار أقل جودة ونضجا ووفرة بمراحل من تلك التى كان يحلم بها الكثيرون. سمعنا فى الأيام الأخيرة وقرأنا تصريحات ومقالات عديدة، واطلعنا على تصورات بعضها سرب تفاؤلا وبعضها الآخر بث تشاؤما أو على الأقل أضاف المزيد لشكوك كانت موجودة. كلها على أى حال غلب عليها الميل إلى تبسيط «القضية» التى بسببها جاء أوباما إلى المنطقة ليكسب وقتا يسمح له بتقديم طرح جديد واستشراف قنوات غير مطروقة تساعده على الاقتراب من «القضية»، تمهيدا للغوص فيها مع آخرين مستعدين للمجازفة وركوب المخاطر. وفى ذهنه بالتأكيد أن النظام السياسى المصرى كان وما يزال الوحيد الذى أبدى استعداده للذهاب بعيدا، وربما أبعد مما تحتمل إمكاناته الذاتية الداخلية والإقليمية.
القضية ليست قضية فلسطين، ولا العراق أو أفغانستان، ولا الحرب ضد الإرهاب بمضمونها الحقيقى، ألا وهو الحرب ضد الإسلام. وهى ليست مسئولية أمريكا عن أحد جوانب هزيمة العرب والمسلمين ممثلين فى مصر تحديدا فى حرب1967 وهى الهزيمة التى تحل ذكراها فى اليوم التالى لإلقاء أوباما خطابه فى القاهرة. و«القضية» ليست تدخل أمريكا أو تدخلاتها فى شئون دول المنطقة، وبالأكثر فى شئون شعوبها وإراداتها وتفسير عقائدها وآخرها التدخل للتأثير على نتائج الانتخابات التى ستجرى بعد ثلاثة أيام فى لبنان، كما أنها ليست «قضية» فرض إرادة سياسية علينا، كما على غيرنا من شعوب أمريكا اللاتينية وحكوماتها، وشعوب أفريقيا وحكوماتها. وجميعها تمرد وأغلبها راح يجرب سياسات مالية وتجارية واجتماعية أقل توحشا أو أكثر إنسانية من تلك السياسات التى فرضتها أمريكا وأجبرت عشرات الدول على تبنيها على امتداد ثلاثة عقود.
«القضية» ليست هذه أو تلك، وهى فى الوقت نفسه هذه القضايا مجتمعه. نحن غاضبون بشدة على الولايات المتحدة لموقفها فى حرب 1967، وهو الموقف الذى سمح لإسرائيل بتثبيت مكاسب هائلة على حساب الفلسطينيين، وتسبب فى زلازل «عقائدية» دفعت إلى سطح الأرض العربية بأفكار وممارسات دينية شديدة التطرف، وكان المفجر الذى أطلق بركان الاستقطاب الدينى، وكنا جميعا، أمريكيون ومسلمون ومسيحيون ويهود، ضحايا له مهما أنكرنا أو تجاهلنا. نحن غاضبون أيضا لأن جو بايدن راح إلى بيروت ليدلى بتصريح وردت فيه عبارات صيغت بغباء أو على الأقل بغطرسة لم تعد مقبولة فى هذه المنطقة أو فى غيرها، ليس فقط لأنها عادت تكرر مقاطع وكلمات من خطاب سياسى اشتهرت به السياسة البريطانية فى عهودها الاستعمارية، ومقاطع وكلمات من خطاب سياسى أحدث اشتهرت به إدارة الرئيس بوش الصغير، ولكن أيضا لأن التصريح صدر قبل ساعات أو أيام من إلقاء خطاب كان الإعداد له يجرى فى واشنطن فى تكتم شديد واهتمام كبير ليلقيه السيد باراك أوباما يوم 4 يونيو فى القاهرة. كانت النية أن يتوجه الخطاب إلى «شعوب» العالم العربى والإسلامى، ليقول لها إن أمريكا ستتغير، بينما بايدن يؤكد من بيروت بتصريحاته، وخلافا لجميع التوقعات المتصاعدة، إنها لن تتغير. هل كان بايدن ومن قبله هيلارى كلينتون غير موفقين، أم كانا بالفعل يمهدان للزيارة بالعمل على تخفيض التوقعات وتهدئة أحلام الحالمين، أم أن طرفا من أطراف زيارة أوباما للمنطقة لم يكن موفقا فى اختيار توقيتاتها، فجعلها تأتى قبل يوم من ذكرى هزيمة العرب والمسلمين فى 5 يونيو وقبل ثلاثة أيام من انتخابات فى لبنان تجرى بين أنصار أمريكا التقليديين، أى أمريكا قبل التغيير الذى وعد به أوباما، وخصوم أمريكا التقليديين الذين لا يصدقون أن فى وسع أوباما أن يقف فى وجه مصالح المؤسسات الإمبراطورية الأمريكية؟
«القضية» بكليتها أكبر بكثير جدا من مجموع القضايا الأساسية والفرعية التى غرست التوتر فى العلاقات بين أمريكا الدولة والدول العربية الإسلامية. القضية هى مجمل السياسات الخارجية الأمريكية على امتداد عقود عديدة، وفى مقابلها مجمل مشاعر الكراهية التى تحملها الشعوب العربية والإسلامية لهذه السياسات، وليس للأمريكيين أو لنظام الحكم فى أمريكا أو لمنظومة القيم الأمريكية حسب زعم جورج بوش. مخطئون هؤلاء الذين صدقوا أن الكراهية بدأت فى أعقاب كارثة برجى التجارة فى نيويورك 11 سبتمبر 2001، كما لو أن المسلمين والعرب فى كل مكان اندفعوا فى حملة كراهية لأمريكا يوم شاهدوا البرجين يهويان، أو أنه لم تؤثر فى هيبتهم واعتزازهم بعقيدتهم وكرامتهم القومية والدينية مئات الممارسات عبر عشرات السنوات.
قليلون فى الغرب، وبعض مفكرينا، يعتقدون أن الكراهية لأمريكا متأصلة فى العقل أو القلب العربى والإسلامى. هؤلاء وعدد منهم من أتباع المستشرق الصهيونى برنارد لويس، استطاعوا أن يصلوا إلى بؤر صنع السياسة فى الولايات المتحدة فى عقد الثمانينيات وبعده، بعضهم مهد لحرب أديان وعقائد استقر الرأى فى عقد التسعينيات على تسميتها بصدام حضارات. ومن أجل هذا الصدام المتوقع ولكى يصير صداما حقيقيا وفاعلا، أنشئت، وبسرعة وكثرة، مراكز بحث تؤصل للكراهية بين الأديان، وتنظر للإرهاب الإسلامى وتبتكر حكايات عن نشأته وتطوره والبيئة المثلى لتكاثره، وتعيد بناء شخصية «هزلية» إسلامية لتصبح نمطا ثابتا يبدأ مثيرا للسخرية وينتهى دافعا للاشمئزاز والكراهية، اشتغلت عليه هوليوود ودور النشر والآلة الإعلامية وجماعات الضغط اليهودية، حتى أصبح فى غضون سنوات قليلة قضية القضايا فى أمريكا ومحور السياسة (الصراع العربى الإسرائيلى) والاقتصاد (النفط) وسببا كافيا لاستمرار المؤسسة العسكرية والصناعات المستفيدة منها. حدث هذا كله وأكثر منه قبل تفجير برجى التجارة فى نيويورك.
باراك أوباما يعرف الكثير ولاشك عن «صناعة الكراهية» وما حققته على صعيد تدهور العلاقات بين أمريكا والشعوب الإسلامية.أوباما الذى اختلط بكثير من المفكرين الأمريكيين من أصول عربية وإسلامية، وإن كان مستشاروه يفضلون إغفال هذا الجانب من ظروف تنشئته ونشاطه فى هارفارد وإلينوى، يعرف جيدا حجم المسئولية الأمريكية عن تدهور هذه العلاقة. ويعرف أيضا أن تيارات فى العالم العربى والإسلامى كانت جاهزة، عقائديا وسياسيا، فى انتظار أخطاء ترتكبها السياسة الأمريكية فتجتمع لديها مبررات كافية ومقنعة لإثارة كراهية عربية إسلامية مقابلة.
يبقى واضحا فى المحصلة النهائية لهذه التجربة فى العلاقات الدولية أن المسلمين فى أنحاء العالم، عقيدة وعددا وتطلعات وحضارة، لم يكونوا البادئين فى المواجهة التى نشبت بين أمريكا والعالم الإسلامى، وإنما كانت السياسات الأمريكية التى عبرت عن مصالح إمبريالية وجسدت فى الوقت نفسه مصالح صهيونية وإسرائيلية، هى التى أثارت ردود فعل عنيفة من جانب العرب والمسلمين.
يخطئ أوباما إذا قرر مسايرة بعض الحكومات العربية الإسلامية وبعض المحيطين به من المستشارين والسياسيين وجماعات الضغط اليهودية فوجه رسالته إلى الحكومات والطبقات الحاكمة فى العالم العربى والإسلامى، بحجة أن هذه الحكومات والنخب الحاكمة هى التى تصنع السياسات وتتخذ القرارات وليست الشعوب. المعروف أن كل ما ارتكبته إدارة بوش من ممارسات تعمدت من ورائها الإساءة إلى الحكومات العربية أمكن تجاوزها. بعض هذه الممارسات والتدخلات استفادت منه الحكومات لثقتها الشديدة فى أن كراهية شعوبها لأمريكا ستجعل هذه الشعوب أكثر استعدادا لدعم حكوماتها ضد تدخلات واشنطن، وبعضه قوبل بتنازلات وإرضاءات مقابل الكف عنه، ومنها التطوع للقيام بعمليات تعذيب المشتبه فى تخطيطهم لعمليات إرهابية بالنيابة عن أمريكا، منها أيضا فتح قنوات مع الاستخبارات الأمريكية والإسرائيلية لمدها بمعلومات عن تيارات وحركات وشخصيات مناهضة لأمريكا و”السلام”.
يستطيع أوباما فى خطابه اليوم إن شاء كسب رضاء حكومات العالم العربى والإسلامى بأن يقدم لها وعودا شكلية وهزيلة ويطمئنها على أن أمريكا ستساعدها على الاحتفاظ بمكانتها واستقرارها. هذه الوعود لن تكلف أوباما الكثير داخليا. ويستطيع أيضا إن شاء كسب رضاء الشعوب بأن يتوجه لها بما يشبه الاعتذار، وهو لن يعتذر على كل حال، ولكنه سيكرر عهودا قطعها على نفسه فى حملته الانتخابية، وقد يحاول الارتفاع إلى مستوى قريب من توقعات هذه الشعوب، وبخاصة فيما يتعلق بحرياتها وحقوقها وعدالة قضاياها واعتزازها بعقائدها الدينية والقومية. بمعنى آخر قد ينتبه إلى ضرورة أن يوحى فى خطابه بأنه على عكس سلفه بوش فإنه يحترم ذكاء هذه الشعوب واختياراتها، وأنه قادر على التمييز بينها كشعوب باقية بعقيدتها ورغباتها وتراثها وأحلامها وبين نخب حاكمة بعقائد متقلبة ورغبات وتطلعات ضيقة الآفاق وميل شديد أو معتدل للاستبداد وممارسة القمع الفكرى والجسدى وانغماس فى الفساد ودعم المفسدين.
أمام أوباما فرصة قد لا تتكرر لتحقيق نقلة واسعة وجذرية فى السياسة الخارجية الأمريكية. وبعدها يقع على عاتق الشعوب الإسلامية مسئولية الارتفاع فوق خلافات حكوماتها وتشجيع أوباما على إحداث التغيير الذى يسعى إليه، إن كان حقا صادقا فيه وكان حقا قادرا على تحقيقه.