ماهو دور العلوم السياسية تحديدًا وما هى الوظيفة المتوقعة من عالم السياسة أو الباحثين فى هذا المجال؟ هل حقًا لا يجوز للمشتغلين بالحقل الأكاديمى نصح صانع القرار؟ وما هى الحدود المفترض رسمها فى الأصل بين باحث السياسية وبين صانع القرار؟
الإجابة عن هذه الأسئلة صعبة، من ناحية لأنه لا توجد إجابة مثالية، ومن ناحية أخرى لأن تطبيقات علم السياسة تختلف باختلاف المكان والزمان وكذلك باختلاف الظرف السياسى، والأهم من كل ذلك فالمشتغلين فى هذا الحقل بشر لديهم نقاط ضعف ونقاط قوة مثلهم مثل باقى بنى جنسهم.
حينما التحقت بالدراسة فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة بعد منتصف تسعينيات القرن الماضى بقليل كنا ندرس العلوم السياسية باعتبارها علمًا للدولة وكذلك للقوة / السلطة. بعبارة أخرى فإن الظاهرة التى كانت تشغل بال المشتغلين بالعلوم السياسية فى هذا الوقت كانت دراسة الدولة القومية بمعناها التقليدى وتحليل ظاهرة السلطة فيها، وكان ذلك على أى حال تأثرًا بالمدرسة الأمريكية تحديدًا حيث كانت معظم المناهج الدراسية الخاصة بالنظم المقارنة والعلاقات الدولية هى انعكاس للدراسات الأكاديمية الغربية بشكل عام والأمريكية منها بشكل خاص، وبالتالى كانت وظيفة عدد من المنشغلين والمحتكين بالشأن العام من أساتذة السياسة فى هذا الوقت هى وظيفة «تبريرية»، بمعنى أن دور المثقف بشكل عام وعالم السياسة بشكل خاص كان يتشكل من أجل السلطة التى تم اعتبارها المعبر الوحيد والحصرى عن الدولة الوطنية وأصبحت درجة قياس مدى وطنية الباحث أو العالم بمقدار تبنيه لأطروحات السلطة وقدرته على تبرير أفعالها السياسية بمهارة.
هذه الوظيفة التبريرية كانت فى تقديرى لها علاقة مباشرة بظروف نشأة أقسام العلوم السياسية فى مصر والعالم العربى، حيث كان يتم النظر إليها فى السابق باعتبارها مصنعًا لإنتاج مثقفين دولة التحرر الوطنى المنشغلين بإمدادها بكل الخبرات والكفاءات اللازمة كى تواصل الاستقلال والتحرر من خلال مزيد من السلطوية والتأميم، هذا التأميم الذى لم يقتصر فقط على الموارد الطبيعية ولكنه امتد للموارد البشرية بما فيها العقول من خلال الإعلام والتعليم ودور العبادة وغيرها من منابر الدولة الوطنية.
فى تلك الفترة أيضًا، كانت العلوم السياسية بها قدرًا من الاصطناع وخاصة فى السياقين العربى والمصرى، فما تدرسه وتقوم بتدريسه هو عبارة عن نظريات فى الأغلب الأعم ليس لها علاقة مباشرة بالواقع المعاش، فالنظم السياسية الغربية والعلاقات الدولية كانت فى معظمها تتحدث عن نظم بها حريات وقانون وتوازن وفصل بين السلطات، وكلها أمور كانت غير معاشة فى الواقع المحلى مما جعل دراسة العلوم السياسية هى نوعا من أنواع الانفتاح النظرى على واقع غريب وغير منظور ولا محسوس، إذا ما أضفنا إلى ذلك الهوة الكبيرة التى كانت تفصل بين مناهج البحث المستخدمة فى الجامعات ومراكز الأبحاث الغربية وبين نظيراتها العربية والمصرية فتكون بذلك الصورة قد اكتملت، ما تدرسه شىء وما تعيشه شىء آخر، وعليك تحت دعوى الخصوصية أن تستغل أدواتك المحدودة لتبرير تصرفات السلطة لا أكثر ولا أقل.
***
فى تلك الفترة كان هناك ثلاثة استثناءات مثلها عدد من أساتذة العلوم السياسية الأفاضل، اتجاه وجه المزيد من الاهتمام والبحث لدراسات التنمية السياسية والتى حاولت السباحة فى تيار مختلف حاول تطويع الأدوات الغربية للاقتراب من الواقعين المصرى والعربى والإفريقى عن طريق المقاربة مع دول آخذة فى التحول السياسى والاقتصادى وبالتالى قريبة من الواقع المعاش، فضلًا عن أن هذا الاتجاه أيضًا كانت له رؤية نقدية واضحة لبعض المناهج والاتجاهات الغربية وخصوصًا تلك المنطلقة من نظريات الحداثة الغربية بالأساس وقد مثل هذا الاتجاه على سبيل المثال لا الحصر الدكتور مصطفى كامل السيد الذى كان بمفرده نموذجًا مختلفًا للمثقف وموقفه النقدى من السلطة وكان هذا اتجاه غير مستساغ كثيرًا وخاصة فى تلك الفترة.
أما الاتجاه الذى مثل الاستثناء الثانى، فقد تمثل فى مجموعة الأساتذة الذين وجهوا جل اهتمامهم إلى الدرسات العربية والمصرية، محاولين وضع أطر نظرية من الواقع العربى والإقليمى المعاش بعيدًا عن ـ بل وانتقادًا ـ لالتنظيرات الغربية وخاصة فى دراسات القومية والوحدة العربية وقضايا الصراع العربى الإسرائيلى والمنظمات الإقليمية، وقد مثل هذا الاتجاه أساتذة مثل الدكتور أحمد يوسف أحمد والدكتورة نيفين مسعد والدكتور حسن نافعة.
ثم الاتجاه الثالث والأخير الذى تمرد أيضًا على هذا الموقف التقليدى لمثقفى وعلماء دولة التحرر الوطنى وهو الاتجاه الإسلامى / الحضارى، الذى حاول أيضًا الاشتباك مع هذا الموقف التقليدى لأساتذة العلوم السياسية من خلال البحث فى الإطار الإسلامى / الحضارى عن أدوات بحثية وافتراضات نظرية مغايرة لنظيراتها الغربية ومن هؤلاء الأساتذة الدكتورة نادية مصطفى والدكتور سيف الدين عبدالفتاح والدكتور حامد عبدالماجد.
لست هنا فى مجال تقييم هذه الاتجاهات النظرية والعملية، لكن لابد من الإشارة إلى أن الأسماء المذكورة أعلاه بالإضافة لعدد من الأسماء الأخرى التى لا تتسح المساحة لذكرها، قد تمردت على وظيفة التبرير وحاولت البحث عن آفاق مختلفة مهدت فيما بعد لتغييرات مهمة فى حقل العلوم السياسية.
ظلت الوظيفة التبريرة للعلوم السياسية هى المسيطرة على الوضعين المصرى والعربى حتى قامت الثورات العربية فتحررت العلوم السياسية كثيرًا من القيود التى كانت مفروضة عليها مما أتاح لعلماء السياسة وباحثيها وخاصة من الأجيال الأصغر، فرصة أكبر للاحتكاك بالواقع السياسى والعام بل وبتغييره. ظهرت آفاق جديدة للبحث، أصبحت تلك الهوة السحيقة بين قاعات الدراسة وبين الواقع المعاش غير موجودة، ظهرت أجيال جديدة من الباحثين السياسيين الذين تفاعلوا مع وسائل الإعلام المختلفة، اشتغل بعضهم بالسياسة والتحق البعض الآخر بالعمل التوعوى والتنموى، وقام فريق ثالث بمشاركة نشطاء السياسة حراكهم الثورى المعارض، وذهب فريق رابع إلى مقاعد السلطة الجديدة التى استبدلت القديمة، كانت الفترة بين فبراير ٢٠١١ ويوليو ٢٠١٣ بمثابة ثورة حقيقة داخل حقل العلوم السياسية فى الحالة المصرية خصوصًا والحالة العربية عمومًا، ظهرت روح جديدة للبحث السياسى العربى ونشطت مراكز الأبحاث والتفكير الاستراتيجى على نحو غير مسبوق.
***
فى تلك الفترة عرف علماء السياسة وباحثوها طرقًا جديدة غير طريق دولة التحرر الوطنى، أصبحت العلوم السياسية لا تدرس فقط ظاهرة السلطة أو الدولة، ولكنها أصبحت تدرس ظواهر الهامش والمركز وما بينهما، قضايا صنع القرار، قضايا الأمن والعلاقات المدنية العسكرية، قضايا التحول الديمقراطى والمجتمع المدنى، قضايا الحراك والحركات الاجتماعية والشباب..إلخ، صحيح أن بعض هذه القضايا كانت موضعًا للبحث قبل الثورة، لكن كان ذلك دائمًا على الهامش، هنا عرفت العلوم السياسية المصرية مقاعد السلطة كما عرفت مقاعد المعارضة، عرفت كيف تشتبك مع الهامش ومع المركز، عرفت كيف تتحرر من المنابر التأميمية وتجد لنفسها مساحة أرحب للحركة والإبداع والاشتباك، عرفت كيف تنصح صانع القرار وكيف تضغط عليه وكيف تساهم فى إزاحته عن الحكم، لكن هل كان الأمر كله خيرًا؟
فى مقال الأسبوع المقبل أحاول الاشتباك مع مرحلة ما بعد ٢٠١١١ وتأثيرها على العلوم السياسية المصرية والعربية واقفًا على عوامل النجاح والإخفاق والإجابة على الأسئلة التى بدأت بها هذا المقال، إن سمحت ظروف النشر ومساحته بذلك.
***
أعتذار: فى مقالى الفائت جاءت فقرة عصبية بخصوص أحد الزملاء نتيجة لسوء فهم إحدى مقالاته، وأجد نفسى مدينًا بالاعتذار لهذا الزميل، وعلى الرغم من أنه لم يتقبل اعتذارى حينما حاولت التواصل معه شخصيًا لكنى أكرر الاعتذار العلنى قناعة منى أنى وقعت فى خطأ جسيم مرة بحق الزميل، ومرة بحق القارئ وبحق جريدة الشروق المحترمة لأننى استخدمت مساحة عامة فى التعبير عن غضب شخصى، وما كان لى أن أقع فى هذا من البداية. ولأن المراجعة ونقد الذات بالإضافة لجبر الضرر من التصرفات الضرورية كى يبقى الإنسان على سلامته النفسية والعقلية واحترامه لذاته قبل أى شىء، فأعتذر عن كتابة مقالى بدءًا من الأسبوع بعد المقبل بعد إنهاء الجزء الثانى من مقال هذا الأسبوع ولمدة شهر كامل، لأنه لا ينبغى لمن يدعو إلى فصل العام عن الخاص وإلى التعددية والليبرالية أن يتورط فى هكذا كلمات، وأتمنى أن تكون فترة الانقطاع عن الكتابة العامة هذه جبرًا للضرر المعنوى الذى وقع على الزميل العزيز واعتذارًا مناسبًا للقارئ ولجريدة الشروق على إضاعة مساحات عامة فى هذا الهراء، فليتقبل الجميع اعتذارى وأسفى.
مدرس النظم السياسة المقارنة بجامعة القاهرة.