التاريخ الحزين لنهب آثار الوطن

أيمن النحراوى
أيمن النحراوى

آخر تحديث: الأحد 3 يونيو 2018 - 8:40 م بتوقيت القاهرة

لم يكن أجدادنا منذ آلاف السنين يعلمون أن كل ما يتعلق بهم وبحضارتهم العظيمة وكل ما له علاقة بمعتقداتهم وحياتهم وحتى مماتهم سيتحول إلى هوس يسيطر على العقول والقلوب لكل من يعرف مصر فى هذه الأرض المقدسة على ضفاف النيل، فقد كانت حضارتنا عظيمة لدرجة أن التاريخ بدأ بها وكتب أول صفحاته عنها وعن إسهاماتها، لتصبح بلادنا مصر، «كمت»، «جبت» هى البلد الوحيد فى العالم الذى له علم يحمل اسمه ألا وهو علم المصريات «الإيجيبتولوجى».
يفعل الزمن فعله وتتبدل الأيام من ازدهار إلى اندحار، فيجتاح البلاد الغزاة الطامعون، وفى غمرة الحقد والعداء لم يسع هؤلاء إلا أن يدمروا تلك الآثار تدميرا وحشيا همجيا يشهد عليه ما تبقى منها وتظهر عليه آثار معاول وفئوس هؤلاء الغزاة فى المعابد والتماثيل العظيمة التى نحتت من صخور الديوريت والكوارتزيت وأشد الصخور وأقساها، وليتأمل جيدا كل من يشاهد تمثال شامخ لأحد ملوك مصر وقد نكس من عليائه أو حطم تحطيما، ليدرك أن هذا ليس فعل الزلازل بل هو فعل الغزاة لتدمير تاريخ ومجد وعـزة هذه الأمة.
لم يكتف هؤلاء الغزاة بذلك بل بادروا إلى نهب ما ضمته تلك المعابد والمقابر من كنوز وحليات وتحف فنية ومقتنيات ذهبية وفضية ثمينة، وإذا كان القبر الملكى لتوت عنخ آمون الملك الصغير قد حوى كنوزا أذهلت العالم فى إبداعها وذوقها وروعتها، فما بالنا بما قد حوته المقابر الملكية لعظماء ملوك مصر مثل رمسيس الثانى أو تحوتموس الثالث، هذا كان فعل الغزاة بدءا من الهكسوس والآشوريين والفرس واليونانيين والرومان والبيزنطيين، وليس التحكم فى شعب ما والسيطرة على مقدراته ممكنا دون تدمير تاريخه والقضاء على آثار أجداده وتدميرها بعد نهبها، وبفعل العقل الذى طمست معارفه حقبة بعد الأخرى، والهوية التى فقدت كينونتها وعتمت على حضارتها، قامت مجموعات من المتطرفين الدينيين منذ القرن الرابع الميلادى وما بعده بتدمير وتحطيم عدد هائل من المعابد والمقاصير والتماثيل والنقوش باعتبارها آثار تنتمى إلى هؤلاء الوثنيين من الأزمنة الغابرة.
وليس يدمى القلب ويكسر النفس أكثر من أن ندرك فعل ذلك التدمير التاريخى الممنهج، من اندثار لغة الأجداد وحلول لغات الغزاة محلها، واندثار عقائد الأجداد وفكرهم الحضارى الرائد لتحل محله عقائد واردة لا تمت لبلادنا ولا حضارتها العريقة بأى صلة، وانقطاع تاريخهم وذكرهم فى أذهان عامة الشعب جيل بعد جيل، لدرجة أن المستشرقين والسائحين فى القرنين السابع عشر والثامن عشر عند قدومهم إلى بلادنا، كانوا عند سؤالهم للأهالى فى المناطق التى توجد بها آثار أجدادهم، يتلقون إجابات خرافية جاهلة بأن تلك الآثار هى أصنام ومعابد وثنية بناها الجان أو المردة، أو أن أصحابها أناس جبابرة غضب الله عليهم وحولهم إلى مسخ كما تبينهم تماثيلهم التى تمثل وضعياتهم التى مسخهم الله عليها فى الأزمنة السحيقة، وغيرها من الإجابات البلهاء التى تعكس فداحة الجرم التاريخى الذى تعرض له هؤلاء الأجداد وتراثهم وحضارتهم، فلما جهل هؤلاء تاريخ أجدادهم هانت عليهم آثار هؤلاء الأجداد وباتوا يسهمون دون وعى فى نهبها والاتجار بها برخيص الثمن وأدناه.
***
من جهة أخرى، لم يقصر كل غريب عن هذا البلد فى الإساءة لتلك الآثار العظيمة دون استثناء، فاستخدمت الأحجار المقطوعة المصقولة من الصروح والمعابد والأهرام فى بناء القلاع والبيوت فى الفسطاط والقطائع والعسكر، ولاحقا سمع الخليفة المأمون أثناء وجوده فى مصر أن الهرم يحوى كنوزا هائلة فأمر جنوده بحفر مدخل للهرم ودمروا جانبا من أحجاره وحاولوا استكشافه للوصول إلى الكنوز المزعومة دون جدوى، وفى عهد صلاح الدين الأيوبى تم تدمير العديد من الأهرامات والمعابد الصغيرة لبناء قلعة الجبل وأسوارها، وأبواب وأسوار القاهرة، كما قام شخص يدعى صائم الدهر وهو أحد المتشددين المغالين وجماعة من أتباعه بجدع أنف تمثال أبو الهول وتحطيم أجزاء من التمثال بحجة أن الناس يعظمون التمثال وينسجون حوله الأساطير والحكايات مما يلهيهم عن دينهم.
وبقدوم الحملة الفرنسية إلى مصر وأعمالها التى دونت فى كتاب وصف مصر وما حواه من رسوم للصروح والمعابد الرائعة تصاعد اهتمام الأوروبيين بالآثار المصرية، واستنادا على ما جمعته الحملة طوال ثلاث سنوات من آثار ملأت سفينة كاملة، قام فيفيان دينون أحد باحثى ورسامى الحملة بتأسيس جناح الآثار المصرية فى متحف اللوفر واستمر الفرنسيون من بعده فى إمداد المتحف بالآثار المصرية منذ ذلك الحين بشرائها ونقلها من مصر، بعد ذلك وبتولى محمد على باشا حكم مصر دخلت عملية نهب الآثار المصرية مرحلة جديدة، فقد كان الباشا يتودد للأوروبيين ويسعى لإرضائهم بكافة السبل ولم تكن تلك آثار مصر تعنى له شيئا، فأخذ الدبلوماسيون والقناصل والمغامرون وتجار العاديات والسائحون الأوروبيون يجوبون البلاد للحصول على الآثار بكل السبل .
***
وتصدرت جهود القنصل البريطانى هنرى سولت والفرنسى دروفيتى ولص الآثار الايطالى جيوفانى بيلزونى عمليات نهب وشراء ونقل الآثار إلى أوروبا، ونقلت فى عصر محمد على الآلاف من التماثيل والمومياوات والآثار، وبتمويل وتشجيع من حكومات ومتاحف العديد من الدول الأوروبية التى أخذت تتنافس فيما بينها لتكوين مجموعاتها من الآثار المصرية، دون أى اعتراض يذكر، فمحمد على نفسه كان يتودد إليها بسماحه بذلك، بل أنه أمر بإهداء عدد من المسلات إلى بريطانيا وفرنسا، أشهرها المسلة الموجودة حاليا فى ميدان الكونكورد فى باريس، وأخيرا وبعد النهب والدمار الشديدين اللذين عانت منهما الآثار المصرية، قام محمد على بناء على نصائح من شامبليون الذى كان فى زيارة لمصر بإصدار قانون الآثار الأول فى 15 أغسطس 1835 .
لكن هذا القانون على أرض الواقع لم يكن له تأثير يذكر، وفى عهد خلفاء محمد على وفى ظل ضعف الدولة وغياب الوعى بلغت عمليات نهب وتهريب الآثار المصرية أقصى مدى يمكن تخيله، فتمكن تشارلز هاريس من تهريب ونقل أعداد كبيرة من التماثيل والبرديات النادرة إلى بريطانيا، كما تمكن سيباستيان سولينيه وعصابة معه من نزع وسرقة النقش الشهير لدائرة الأبراج السماوية من سقف معبددندرة، وتمكن بريس دافين من قطع وسرقة قائمة الملوك من معبدالكرنك وتهريبها مع آثار أخرى إلى أوروبا، وتمكن أرنست واليس بادج من شحن أربعة وعشرين صندوق ضخم تحوى أعداد كبيرة من القطع الأثرية على سفن الأسطول البريطانى، وتمكن فيما بعد من سرقة وتهريب بردية آنى الشهيرة التى يبلغ طولها 78 قدم ونقلها إلى بريطانيا، وتمكن الألمانى كارل ليسبيوس من سرقة تمثال رأس الملكة نفرتيتى وتهريبه إلى برلين، وهذا كله غيض من فيض من آلاف عمليات نهب وتهريب الآثار التى حدثت فى تلك الفترة المظلمة من تاريخ مصر.
***
وما سبق إن هو إلا تاريخ موجز للمرحلة الأولى لأكبر وأطول عملية نهب منظم فى التاريخ لآثار بلد ما، حيث نهب ما لا يعد ولا يحصى من الآثار والأحجار والتماثيل والمومياوات والتوابيت وأوراق البردى والأدوات والمعادن النفيسة والأحجار الكريمة، وبما يقدر قيمته بمئات المليارات من الدولارات، أقيمت بموجبها متاحف كاملة فى مختلف مدن العالم فى مقدمتها المتحف البريطانى واللوفر والمتروبوليتان ومتحف برلين وتورينو وغيرها من المتاحف التى تضم عشرات الآلاف من القطع الأثرية المصرية المنهوبة، هذا عدا آلاف المجموعات الأثرية التى يمتلكها الهواة من الأثرياء، بالإضافة إلى ما لم يفصح عنه من مهربات فى مخازن عصابات الجريمة الدولية المنظمة فى تجارة وتهريب الآثار، وفى مستودعات صالات المزادات العالمية.
إن القلب ليحزن وإن العين لتذرف دموعا دامية على تراث الأجداد والوطن، الذى هو جزء عزيز من شرف وكرامة هذا الوطن، وتاريخه وحاضره ومستقبله، ويجدر بنا أن نتخذ من فورنا التدابير والقوانين اللازمة للحفاظ على كل أثر كبيرا كان أم صغيرا، حتى لو غلظت عقوبة نهب وتهريب الآثار المصرية لتكون الإعدام، فهذا جزاء حق لمن يعبث بذلك التراث الوطنى لأنه خائن لوطنه وأجداده وتاريخه، وإن ظل الأمر على ما هو عليه من استمرار هذا الوضع، فسنكون بذلك غير جديرين بهذا الوطن العظيم وهؤلاء الأجداد الخالدين، فالحفاظ على آثارهم وتراثهم هو فرض وفريضة مقدسة واجبة علينا وعلى أولادنا وأجيالنا إلى أبد الدهر.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved