نظام دولي جديد: عوامل التغيير والتعرية
العالم يفكر
آخر تحديث:
الإثنين 3 يونيو 2019 - 11:58 م
بتوقيت القاهرة
نشرت دورية المستقبل العربى مقالا للكاتب لبيب قمحاوي نعرض منه ما يلي:
الكثير مما قد يعتبره البعض حادثا عاديا ربما يكون فى نتائجه مؤشرا إما على بداية انهيار وضع قائم، وإما على تولُد استراتيجيات دولية جديدة، وإما على بداية تغييرات دولية مختلفة قد تعصف جزئيا أو كليا بالأوضاع وبالتحالفات الإقليمية والدولية القائمة. ما يجرى الآن ربما يكون فى حقيقته مؤشرا على بداية انهيار النظام الدولى الحالى، والتوجه نحو نظام جديد من أهم أهدافه المنافسة على الأسواق والموارد الطبيعية وعوائد التكنولوجيا المتقدمة لتحديد المصالح المشتركة أو المتعارضة فى العلاقات الدولية. ومع أن عوامل التغيير ما زالت قيد التكوين، إلا أن التنافس على الموارد الطبيعية المتناقصة والأسواق التى أصبحت مفتوحة أمام التدفق الكونى للتكنولوجيا الرقمية ومنتوجاتها، إضافة إلى الزيادة المطردة للسكان، هى المصالح ذات الأولوية فى عملية التغيير المقبلة.
ما زالت الأسس الحاكمة للنظام الدولى السائد والعلاقات بين الدول تعكس أهمية المصالح الوطنية كما تمثلها الدولة الوطنية التقليدية ضمن إطار النظام الدولى الحالى والقانون الدولى. وهذا القانون يستند فى أصوله إلى أولوية الحق بعد سقوط النظام الدولى السابق عشية انتهاء الحرب العالمية الثانية، التى خاضها العالم نتيجة لمحاولة بعض الدول تطبيق مبدأ أولوية القوة على أولوية الحق؛ باعتبار أن القوة المسلحة هى منبع السيادة والإطار الحامى والضامن لها.
تشهد الحقبة الحالية البدايات المبكرة لانهيار الأمم المتحدة، وكذلك القانون الدولى المستند إلى أولوية الحق، دون وجود أى اتفاق دولى على البديل. وما ساهم فى تسريع هذه البدايات هو التصرف غير المسئول للإدارة الأمريكية الحالية فى استعمال قوتها وجبروتها لدعم نهج أولوية القوة، وفى استعمال حق الفيتو لدعم السلوك العدوانى لها ولحلفائها حتى ولو تعارض ذلك مع القانون الدولى.
يَعتبر النظام الدولى الحالى العدوانَ المسلح أمرا خارجا عن نطاق القانون الدولى، مع أن ذلك لم يؤدِ إلى وقف ذلك النمط من الحروب بوصفها نهجا يتعارض مع النظام الدولى السائد للعمل على حل النزاعات بالطرق السلمية. وقد أسهم هذا الوضع فى خلق درجة معقولة من التوازن فى كيفية معالجة النزاعات الدولية، وإن كان تطابق المصالح بين الدول المعتدية وبعض الدول الكبرى قد أدى فى مناسبات متعددة إلى إضعاف قدرة الأمم المتحدة على فرض ما يكفى من الضوابط أو العقوبات لمنع النزاعات المسلحة أو الحد منها.
من غير المتوقع أن تتم عملية إضعاف النظام الدولى السائد ومؤسساته بسرعة أو فجأة، بقدر ما ستتم تدريجيا وبصورة تراكمية وعلى مدى زمنى طويل. أكبر ضحايا الضعف المتزايد فى بنية النظام الدولى السائد هم الدول الضعيفة ذات الأنظمة السياسية والبنية الاقتصادية التى تخلو من مضمون حقيقى أو مؤسسية فاعلة. وهذه الدول عادة ما تصبح الضحية المبكرة والسهلة لعوامل التغيير السلبية. والوطن العربى بوضعه الحالى المفكك هو مرشح طبيعى لأن يكون من أوائل الضحايا.
***
سوف تصبح القضايا المرتبطة بالنضال الوطنى أو العقائدى، فى ظل النظام الدولى الجديد، قضايا مرتبطة بالمصالح والقدرة على الحفاظ على تلك المصالح، وهى بذلك سوف تكون قضايا متغيِرة بتغيُر المصالح وليست ثابتة بحكم ارتباطها بالثوابت الوطنية. كما تشير التطورات الأخيرة فإن قضايا النضال الوطنى أو العقائدى قد تُصنف عموما بوصفها قضايا إرهاب، باستثناء تلك المرتبطة بمصالح القوى المهيمنة على مقدرات العالم طبقا للنظام الدولى الجديد. وهكذا فإن غياب الثوابت سوف يجعل من النظام الدولى الجديد كتله هلامية تفتقر إلى ثوابت دولية وأخلاقية تؤدى إلى الاستقرار العالمى، وتصبح العلاقات الدولية محكومة بمصالح متغيرة فى عالم يزداد سكانه باطراد، وتقل موارده الطبيعية باطراد أيضا.
قد يعتقد البعض أن هذا التغيير هو نحو الأفضل، ولكن الحذر يجب أن يرافق مثل تلك الرؤية لأن عالما مرتبطا بالمفاهيم المصلحية البحتة سوف يكون بالتأكيد عالما متوحشا تحظى فيه الرؤية الإنسانية على أدنى مراتب الاهتمام. والقانون الإنسانى المستند إلى التجارب والآلام التى رافقت قرونا من الحروب الذى يهدف إلى التعامل مع الشعوب بمنظور إنسانى حضارى مغلف بالرحمة والمشاركة، سوف يتقهقر فاسحا المجال أمام قانون شرس، لا يحترم سوى القوة والمصالح المادية كما تجسده الآن إدارة ترامب الأمريكية بصورة أولية وابتدائية، وإن كان يتميَز فى أصوله منذ البداية بالأنانية المطلقة وافتقاره إلى الرحمة بصورة واضحة.
سوف تختفى المفاهيم السائدة لمصلحة مفاهيم جديدة، لن تكون محصورة بالسياسة بل تشمل الاقتصاد والبيئة والموارد وكيفية إدارتها أيضا، إضافة إلى ملكية المصادر الطبيعية الأساسية والتعامل مع قضايا المناخ، وما قد يتمخض عنها على مستوى كونى. والحروب الإلكترونية والطائرات بلا طيار سوف تجعل من مفهوم الحروب التقليدية شيئا من الماضى، وتعزز قدرة الدول التى تمتلك ناصية القوة على السيطرة على المصادر الطبيعية والشعوب والأسواق. والنمط الجديد من الحروب التجارية، مثل التى تجرى الآن بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين بكل تأثيراتها فى الاقتصاد الدولى وفى سوق المال والأسهم العالمية، أو كالتى جرت سابقا بين الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا على نظام الحماية لسلع بعينها مثل الفولاذ، يعطى مؤشرا عن طبيعة صراع المصالح وأدوات الصراع فى النظام الدولى الجديد. وهكذا، فإن الدول القوية فى ظل هذا النظام ستزداد قوة والدول الغنية ستزداد غنى، والشعوب الفقيرة سوف تزداد بؤسا.
شعوب البلاد التى تكتنفها الحروب أصبحت تسعى للهجرة إلى دول الصف الأول التى تستطيع تقديم حياة أفضل لمواطنيها. وأصبحت المواطَنة بشكلها القانونى والإدارى أقوى من الوطنية بشكلها السياسى، وقريبا سوف تتحكم إمكانات الفرد وخبراته وظروف العرض والطلب فى إعطاء أى شخص حقوق المواطنة فى بلد ما من دون أن يرتبط ذلك بالانتماء الوطنى السياسى بالضرورة.
الحقوق المكتسبة المرتبطة بالهوية الوطنية والانتماء الوطنى سوف تصبح أقل أهمية من امتلاك القدرة على تلبية متطلبات سوق العرض والطلب العالمية، التى تحدد فرصة الحصول على مواطنة هذه الدولة أو تلك. والدول لن تكون تعبيرا عن الانتماء الوطنى بقدر ما ستكون تعبيرا عن مجموعة المصالح التى تربط مجموعة من البشر فى بقعة جغرافية ما وإلى الحد الذى ستختفى فيه الدولة القطرية لمصلحة مجموعات إقليمية أكبر وأقل تمسكا بالهوية الوطنية مثل أوروبا والاتحاد الروسى.
***
العرب أقل قدرة على استيعاب تلك المتغيرات المعقدة، وأقل استعدادا للقبول بها، نظرا إلى حداثة فكرة الدولة الوطنية والهوية القومية العربية وعدم نضجها فى السياق التاريخى لحياة الشعوب، وبالتالى تنامى الإحساس بالضياع فى حال فقدانها كهوية سياسية وطنية قبل أن تكون قد نضجت وترسخت. علما بأن قضايا الصراع التى تعصف بالمنطقة العربية مرتبطة بالمفهوم التقليدى للهوية الوطنية ممثلة بالدولة الوطنية وقضايا التحرير المرتبطة بها مثل قضية فلسطين وتحريرها وحق الشعب الفلسطينى فى دولته الوطنية المستقلة. يضاف إلى هذا أن الإطار الأيديولوجى للقومية العربية يسعى إلى دولة الوحدة كتجسيد نهائى لتلك الرابطة. من هنا فإن الرفض العربى المتوقع للتغيرات القادمة فى النظام الدولى الجديد ربما لا يكون مبعثه الرفض الواعى والقادر، بقدر ما هو تجسيد للإحساس العربى بالضياع والخوف الناتج من متغيرات قادمة من خارجه تفرض تغييرا سابقا لحالة النضج الوطني؛ الذى يسمح بالانتقال من مرحلة قائمة إلى مرحلة أخرى جديدة تدفع بمنظومة من القيم والمفاهيم؛ التى تتناسب وظروف عالم خارجى قادر على الاستفادة منها، فى الوقت الذى يفتقد فيه الوطن العربى مثل تلك القدرة.
ولعل صفقة القرن تهدف إلى التناغم مع تلك المتغيرات من خلال تكريس سيطرة الدولة الأقوى فى الإقليم (إسرائيل)، وتجاوز مفهوم الهوية الوطنية من خلال التقدم بأفكار تهدف إلى القفز فوق مفهوم حق تقرير المصير للفلسطينيين وهدف الدولة الوطنية الفلسطينية المستقلة، لمصلحة مفهوم دولة إسرائيل الشرق الأوسطية المهيمنة على الإقليم عموما. علما بأن المجتمع الإسرائيلى يمثل مجتمعا مرتبطا بمصلحة الإسرائيليين المشتركة فى استعمار الأرض الفلسطينية وما يجاورها؛ مستغلين بذلك الإطار اليهودى الصهيونى كقوة جامعة لتلك المصلحة أكثر منه كهوية وطنية ذات مدلول أيديولوجى حقيقى، حيث إن الهوية اليهودية للدولة سوف تضعف تدريجيا لمصلحة صفتها الشرق الأوسطية بعدما تحصل إسرائيل على كل ما تريد من الفلسطينيين، إن استطاعت ذلك! فمفهوم يهودية الدولة يعنى فى أصوله الحقيقية «لا فلسطينيتها» ورفض أى علاقة لها بالفلسطينيين أكثر من أى أمر آخر.