سيل الانتقادات الهائل الذى حفلت به مواقع التواصل الاجتماعى، ووصل إلى حد إطلاق الشتائم واللعنات على السلطة عقب قرارات رفع أسعار الوقود (البنزين والسولار والبوتاجاز) ولد عند البعض شعورا بأن الشارع المصرى سينزل عن بكرة أبيه إلى الميادين من جديد فى ذكرى 30 يونيو ليرفض تلك القرارات على غرار ما جرى فى 18 و19 يناير 1977 وقت أن أجبرت التظاهرات الرئيس الراحل أنور السادات على التراجع عن زيادة أسعار عدد من السلع الأساسية.
غير أن هذا الشعور لم يجد له أصداء حقيقية فى الواقع، واقتصر الأمر على إطلاق صيحات رفض هنا، وأخرى هناك، فيما تحول الأمر إلى غضب مكتوم جرى تنفيس جزء منه عبر إطلاق النكات وكلمات السخرية التى يبرع فيها المصريون وقت الشدائد، حتى أصيب بعض المتحمسين لاتخاذ مواقف تخرج عن السلوك المعهود لـ«حزب الكنبة» بالإحباط.
طبعا الحكومة التى تعرف أن قدرة الناس على المقاومة باتت فى حدها الأدنى، أطلقت العنان لقرارات تظن أنها «مؤلمة» فيما هى، للحق، قاتلة للفئات الاجتماعية الفقيرة والمهمشة،على حد سواء مع أبناء الطبقة الوسطى التى جرى تدميرها، كما تعاملت مع غضب الناس بنوع من الاستخفاف، وتقديم تبريرات غير مقنعة لقرارات رفع الأسعار التى اتخذت تحت غطاء من استراتيجية الخداع المعهودة فى أيام العطلات.
لكن لماذا اقتصر الغضب على قرارات الحكومة على الفيس بوك وباقى مواقع التواصل الاجتماعى، وبضعة احتجاجات محدودة؟ السؤال كانت إجابته جزءا من نقاش معمق دخلت فيه مع عالم الاجتماع الكبير الدكتور شحاته صيام، صاحب العديد من المؤلفات المهمة فى مقدمتها «الدين الشعبى فى مصر» و«العقل التكفيرى»، للوقوف على طبيعة الشخصية المصرية، ومدى قدرتها على تحمل أخطاء الحكومات المتعاقبة؟.
يقول الدكتور صيام إن «الشخصية المصرية تحمل أبعادا متعددة فى تكويناتها، منها ما يتصل بالبعد البيئى والجغرافى، ومنها ما يرتبط بطبيعة الظروف الاقتصادية والاجتماعية، وغيرها ما يتعلق بطبيعة الدولة ووظائفها وأدوارها.. فوفق العوامل السابقة تتحدد مواقف المصرى من أحداث المجتمع وما يمر به من إشكاليات«..» ففى أوقات معينة ــ وخاصة فترة الأزمات ــ يتم الوقوف على طبيعة قوة الدولة، إذ عبر هذا الاختبار يتم تعيين علاقة الناس بأجهزتها وأدواتها وانحيازاتها.. وعندما يستشعر الناس موقف الدولة تجاه أوضاعهم ومدى قدرتها على تلبية احتياجاتهم، فإنهم إما ينحازون إليها أو يديرون ظهورهم لها».
يواصل عالم الاجتماع والأستاذ بجامعة الفيوم كلامه: «ولما كان الناس فى مصر لا يتجاسرون على الخروج على الدولة نتيجة لوجود بعض القيم التى تحول دون إتمام ذلك، إما خوفا من بطشها أو من ضياع ما تم تأمينه منها، فإن الفرد لا يجد إلا ممارسة أدواره النقدية ضدها من وراء ظهرها، وهو ما نجده فى النكات او الشائعات، تلك التى تكون فى الأساس ما هى إلا تنفيس عن حالة ضاغطة لظروف حياتية.. وهذا ما عبرت عنه حالة السخرية والنكات التى شاهدناها فى فضاء الفيس بوك تجاه رفع الأسعار وارتفاع سعر الدولار وتعويم العملة المصرية وزيادة سعر المحروقات».
كل ذلك يجعلنا ــ حسب الدكتور صيام ــ ندفع بأننا فى فضاء المواقع الأمامية ( خشبة المسرح ) نبدى خضوعا للسلطة ونفاقا، وفى المواقع الخلفية ( الكواليس) أو خلف ظهر السلطة نكيل لها انتقاداتنا ونبدى ما يجيش فى دواخلنا».
لكن متى تتبدل المواقف وينتقل ما يدور فى الكواليس إلى خشبة المسرح؟، وإلى أى مدى سيتحمل الناس اللهاث من أجل تدبير لقمة عيش باتت شحيحة؟، الإجابة ربما لن تحتاج إلى الكثير من الوقت، إذا واصلت الحكومة المضى قدما فى درب وصفات صندوق النقد الدولى، وإذا ما استمر الرهان الخاسر للسلطة على اتباع نظرية «اتعب المواطن يريحك»!!.