نشر مركز كارنيجى للسلام مقالا للمحلل الاقتصادى «برندان ميغان» عن سياسة رفع الفوائد وما ترتبه من ردود فعل تجاه الحكومة خاصة من قبل رواد الأعمال. يبدأ الكاتب مقاله بقرار البنك المركزى المصرى برفع أسعار الفوائد نقطتين مئويتين فى 21 مايو 2017، والذى وقع كالمفاجأة على قطاع الأعمال والمستثمرين فى مصر. ففى استطلاع أجرته وكالة رويترز شمل 14 خبيرا اقتصاديا يواكبون السوق المصرية قبل خمسة أيام من قرار المصرف المركزى، توقع جميعهم ما عدا خبير واحد أن يبقى البنك المركزى المصرى أسعار الفوائد على حالها. يشار إلى أن المصرف المركزى كان قد زاد أسعار الفوائد ثلاث نقاط مئوية فى نوفمبر 2016، بالتزامن مع قراره تحرير سوق صرف العملات الأجنبية، والذى أسفر عن خسارة الجنيه المصرى أكثر من نصف قيمته فى مقابل الدولار الأمريكى.
كان الإجماع بين المستثمرين فى السوق المصرية أن أسعار الفوائد مرتفعة بما فيه الكفاية للحول دون أى تدفق للعملات الأجنبية إلى الخارج وكبح التضخم المدفوع بالطلب، وأنه من شأن أى زيادة إضافية فى هذه المرحلة أن تؤدى ببساطة إلى زيادة كلفة الاستدانة بالنسبة إلى القطاع الخاص. لكن، وفى خطوة مفاجئة بالنسبة إلى عدد كبير من المستثمرين، قررت السلطات المصرية رفع أسعار الفوائد إبان اجتماع مع صندوق النقد الدولى فى 11 مايو حول الدفعة الثانية من القرض الذى منحه الصندوق لمصر وقدره 12 مليار دولار أمريكى. فى حين رحب المستثمرون بعدد كبير من الإصلاحات الأولية التى طبقت بالتزامن مع اتفاق القرض فى نوفمبر ــ مثل تعويم الجنيه المصرى، وفرض ضريبة على القيمة المضافة، وخفض الدعم الحكومى للطاقة ــ أثارت الخطوة الأخيرة، التى يعتقد أنها تمت بناء على طلب صندوق النقد الدولى، الانتقادات والاستهجان.
يرى الكاتب أن هذه المعارضة لزيادة أسعار الفوائد منطقية فى المدى القصير نظرا إلى الارتفاع الكبير فى التضخم الذى شهدته مصر خلال العام المنصرم. على الرغم من أن زيادة أسعار الفوائد فى مراحل الزيادات المتسارعة فى الأسعار يمكن أن تساهم فى تحفيز الادخار بدلا من الإنفاق، إلا أن ذلك لا يحدث إلا عندما يكون هناك شريحة كبيرة من السكان تدّخر أموالها فى المصارف. فقد أشارت تقديرات فى العامين 2014 و2015 ــ قبل تحرير سعر الصرف ــ إلى أن 7 إلى 14 فى المئة فقط من المصريين الذين يفوق عددهم تسعين مليون نسمة، لديهم حساب مصرفى جارٍ، ما يجعل انتقال أثر السياسة النقدية عن طريق أسعار الفوائد أمرا صعبا. فضلا عن ذلك، حتى لو كان عدد المصريين الذين يملكون حسابات مصرفية أعلى، وحدها الزيادة الكبيرة فى قيمة الجنيه المصرى يمكن أن تؤدى إلى خفض مستوى التضخم فى المدى القصير.
سوف تواجه الأعمال والشركات المصرية أيضا ارتفاعا فى تكاليف الاستدانة. على النقيض من معظم المواطنين المصريين، تعتمد الأعمال، لا سيما الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم، على القروض من المصارف لتوسيع عملياتها وإطلاق مشاريع جديدة. فعند ارتفاع أسعار الفوائد، قلة من الأعمال تنتهز الفرصة للنمو إذا كانت إيراداتها المتوقعة أقل من سعر الفائدة الذى يمكن أن تحصل عليه عبر إيداع أموالها فى المصارف. لكن فى حين أن تكاليف الاستدانة فى المدى القصير سجلت زيادة اسمية، لا تزال الأعمال تواجه أسعار فوائد حقيقية سلبية (أى سعر الفائدة الأسمى الذى يقدمه المصرف ناقص معدل التضخم) فى المدى القصير. لا تواجه الأعمال أسعار فوائد حقيقية مرتفعة بطريقة معوقة إلا إذا تباطأ التضخم إلى حد كبير إنما مع حفاظ أسعار الفائدة على ارتفاعها فى المدى الطويل.
هنا يضيف ديغان أنه بحسب ما لفت إليه منتقدو البنك المركزى وصندوق النقد الدولى، غالب الظن أن تأثير هذه الزيادات فى أسعار الفوائد على معدل التضخم الذى يحافظ على ارتفاعه، سيكون معدومًا فى الأشهر المقبلة. حتى وزارة المال راجعت توقعاتها عن التضخم للسنة المالية المقبلة تصاعديا، مشيرة إلى أن معدل التضخم سيبقى عند 22.8 فى المئة، وإلى أنه سيتراجع فقط إلى المستويات التى كان عليها قبل خفض قيمة العملة الوطنية فى السنوات المالية اللاحقة، بعد أن تكون تأثيرات خفض قيمة العملة التى تحدث لمرة واحدة قد انحسرت، مع استقرار الأسعار عند مستوى أعلى بكثير.
***
بيد أن هذه الانتقادات فشلت إلى حد كبير فى أن تأخذ فى الاعتبار التداعيات الطويلة المدى للزيادة فى أسعار الفائدة التى فرضها البنك المركزى المصرى، والإشارات التى توجهها إلى السوق. فى حين أن الجزء الأكبر من مجتمع الأعمال يركز بطريقة مفهومة على كلفة الاستدانة فى المدى القصير، لا بد للبنك المركزى المصرى، ولصندوق النقد الدولى ضمنيًا، من النظر إلى المدى الأبعد. ليس هدفهما ببساطة تلبية طلبات مجتمع الأعمال فى المدى القصير، بل جعل السياسة النقدية المصرية تستعيد مصداقيتها عبر وضع التضخم تحت السيطرة.
قبل تعويم الجنيه المصرى، كان معدل التضخم الأساسى الشهرى على أساس سنوى أكثر بقليل من عشرة فى المئة منذ فبراير 2014؛ لذلك لم يكن لدى البنك المركزى المصرى وصندوق النقد الدولى ــ وفقا للكاتب ــ سبب فعلى لتوقع انخفاض التضخم إلى مستوى أدنى، حتى بعد انحسار التداعيات الفورية لتراجع قيمة الجنيه المصرى. فى الواقع، وبسبب هذا التوقع تحديدا، سوف تستمر الأسعار فى الارتفاع فى السنوات المقبلة، فى غياب سياسة جذرية إلى حد ما فى مجال أسعار الفائدة.
التضخم المدفوع بالتوقعات هو النبوءة الأبرز للتحقق. فالتوقعات القوية بالتضخم يمكن أن تدفع بالأعمال إلى افتراض زيادة معينة فى الأسعار مع مرور الوقت. عندما يلمس العمال ارتفاعا فى الأسعار، يبدأون بالمطالبة بزيادة رواتبهم. ومع زيادة الرواتب، يزداد الطلب، فتتحول توقعات الأعمال والشركات إلى واقع، ما يزيد من توقعاتهم المستقبلية عن التضخم. يمكن أن تؤدى زيادة المصرف المركزى لسعر الفائدة إلى خفض مستويات التضخم، إنما فقط إذا صدق المستهلكون والأعمال أن أسعار الفوائد المرتفعة، أو مستويات التضخم المنخفضة، وجدت لتبقى. بعبارة أخرى، لا يمكن للسياسة النقدية ضبط التضخم إلا عندما يصدق الناس فعلا أن المصرف المركزى سيقرن القول بالفعل.
هنا يؤكد ديغان أن إسراف الحكومة، طوال عقود، فى الإنفاق على دعم الطاقة والمواد الغذائية، مقرونا بسياسة نقدية فضفاضة، ألحق أذى كبيرا بمصداقية البنك المركزى المصرى فى عيون المستهلكين المصريين، وهناك أيضا انعدام شديد للثقة بالحكومة والمصارف فى شكل عام، ولذلك فإن الوعود بتوخى الحيطة والحذر فى المستقبل لا تمارس تأثيرا كبيرا. بدلا من ذلك، وإذا كان البنك المركزى المصرى ينوى فعلا إطلاق حقبة من الانخفاض فى التضخم فى السنوات المقبلة، عليه أن يقلب توقعات التضخم فى المدى المتوسط والطويل عبر بذل جهود حثيثة لإثارة المفاجأة والاعتراض لدى مجتمع الأعمال.
***
هذا التركيز على النظرة الاستشرافية الاقتصادية الطويلة المدى من جانب البنك المركزى المصرى وصندوق النقد الدولى يلقى أيضا معارضة من خارج مجتمع الأعمال. فقد ورد فى وجهة نظر أخرى منتقدة للزيادة الأخيرة فى أسعار الفوائد أن الحكومة تخصص حصة كبيرة على نحو متزايد من موازنتها لدفوعات الفوائد، وغالبا ما يتم ذلك على حساب البرامج الاجتماعية والدعم الحكومى. لكن مجددًا، تركز هذه الحجة على الاستقرار السياسى ومعاناة الفقراء فى المدى القصير. ففى المدى الطويل، من شأن كبح التضخم أن يساهم فى زيادة القيمة الحقيقية للجنيه المصرى، ما يؤدى إلى خفض كلفة الدعم الحكومى والإنفاق الاجتماعى فى المستقبل، لا سيما على السلع المستوردة التى يتم شراؤها بواسطة الدولار. لذا يرى الكاتب ضرورة خفض الدعم الحكومى مع مرور الوقت، لكن إذا تمكن المصريون ذوو الدخل المتدنى من الاحتفاظ بقدرة شرائية أكبر، يمكن التعويض، ولو جزئيا على الأقل، عن تأثيرات الخفوضات فى الدعم الحكومى.
نظرا إلى تركيز صندوق النقد الدولى فى السابق على إجراءات التقشف، إنها لمفارقة أن وزير التموين والتجارة الداخلية على المصيلحى تعهد، بعدما أثارت شائعات عن خفض الدعم الحكومى احتجاجات فى مارس الماضى، بأنه لن تكون هناك أى خفوضات فى الدعم الحكومى للمواد الغذائية فى المرحلة المقبلة. وقد أثنى كريس جارفيس، رئيس بعثة صندوق النقد الدولى فى مصر، صراحة على توسيع الحمايات الاجتماعية فى مشروع موازنة 2017ــ2018 على إثر الاجتماعات التى عقدها صندوق النقد الدولى مع السلطات المصرية فى مايو حول الدفعة الثانية من القرض. فى حين أن الزيادة فى مدفوعات الفوائد فى المستقبل تستوجب حكما توخى الحذر، يدرك هؤلاء المسئولون أن تراجع مستوى التضخم ورفع قيمة العملة يحدان من تداعيات هذه الزيادات.
يختتم ديغان مقاله بأنه نظرا إلى مجموعة المشكلات التى يعانى منها الاقتصاد الكلى فى مصر، تنطوى استراتيجية زيادة أسعار الفوائد على مخاطر. فالتاريخ حافل بأمثلة عن مصارف مركزية تتخبط لاكتساب المصداقية من جديد فى عيون المواطنين، وتفشل فى ذلك. من أجل إحداث تغيير حقيقى فى توقعات السوق، ينبغى على البنك المركزى المصرى التحلى بالصبر وامتلاك الشجاعة للحفاظ على الارتفاع فى أسعار الفوائد فى وجه الانتقادات من الحكومة والشركات. من شأن الإبقاء على الارتفاع فى أسعار الفوائد لفترة طويلة أن يلحق أذى كبيرًا بالنمو الاقتصادى المصرى، غير أن الاستعجال فى خفضها قد يؤدى إلى ترسيخ الشعور بأن البنك المركزى المصرى يفتقر إلى الإرادة لمكافحة التضخم.