دولة المماليك والخلافة الاسمية!
أحمد عبدربه
آخر تحديث:
السبت 3 أغسطس 2019 - 7:45 م
بتوقيت القاهرة
بعد سقوط بغداد على يد المغول فى ١٢٥٨م انتهت الخلافة العباسية فعليا حتى لو استمرت اسميا فى القاهرة تحت الوصاية المملوكية (١٢٦١ـ١٥١٧)، إلى أن انهزمت الأخيرة على يد سليم الأول لتبدأ خلافة أخرى ولكن هذه المرة ليست بقيادة عربية وإنما بقيادة عثمانية/تركية فى الأناضول.
كان لسقوط بغداد أثر سلبى على عامة المسلمين كما أن سقوط عاصمة الخلافة كان بمثابة هزة لسلاطين المسلمين فى أرجاء الخلافة. ورغم أن الخلافة العباسية فى عصرها الثالث كانت متشرذمة كما أن الخليفة كان يسيطر فعليا على بغداد والمناطق المحيطة بها فقط، لكن يرى المؤرخون (وتتفق فى ذلك المصادر العربية والغربية) أن الخلافة كانت مهمة روحيا ومعنويا، فمنصب الخليفة فى ذلك العصر كان له دلالة سياسية ودينية وكان حصول السلاطين على تأييد الخليفة هو فى حد ذاته مصدر شرعية!
شعر عامة المسلمين بالضياع، كما شعر السلاطين بالتهديد، فرغم انتصارات صلاح الدين على الصليبيين، إلا أن حملات الأخيرين لم تنتهى، كذلك فقد مثل الوجود المغولى خطرا محدقا بالمسلمين وخاصة بعد أن اتحد الكثير من المسيحيين والأرمن بل وبعض السلاجقة والتركمان مع المغول والصليبيين، كما أن القوتين الأخيرتين، بدأتا أيضا فى التنسيق من أجل إنهاء الخلافة الإسلامية تماما.
***
قبل سقوط بغداد بسنوات قليلة كان هناك حدث فريد لم يتكرر فى تاريخ الخلافة، فقد تم تولية شجر الدر (زوجة الملك الصالح أيوب) السلطنة الأيوبية فى مصر وكان ذلك بمباركة ودعم المماليك. لكن حكم شجر الدر كان مليئا بالصعاب، فكونها أول امرأة تتولى شئون المسلمين لم يمر بسهولة على المسلمين، فمن ناحية لم يكن هناك ترحيب شعبى بتوليها السلطة وذهب المؤرخون إلى تفسيرين بخصوص عدم شعبية شجر الدر، الأول يقول إن العامة لم يعتادوا على أن تتولى شئونهم امرأة ومن هنا كان عدم الترحيب، والتفسير الثانى يقول بأنه سادت قناعة شعبية نشرها المماليك المعارضون لحكمها تقول بأن شجر الدر قد فرطت فى حقوق المسلمين حينما قررت الصلح مع الصليبيين والإفراج عن لويس التاسع الملك الفرنسى الشهير الذى قاد الحملة الصليبية على دمياط وانهزم فى فارسكور والذى أعاد الهجوم على الديار الإسلامية مجددا بعد عودته إلى عكا!
وعلى أية حال فإن الرأى الشعبى لم يكن ليفرق كثيرا فى مصير السلطانة ولكن رأى بعض المماليك الرافضين لحكمها والمدعم بواسطة رأى علماء الدين وعلى رأسهم عالم الدين الأشهر فى ذلك الوقت ابن عبدالسلام الرافض لها، فضلا عن رفض الخليفة العباسى نفسه توليتها والعبارة الأشهر المنسوبة إلى الخليفة المستعصم والتى وجهها إلى المماليك فى مصر «إن كانت الرجال قد عدمت لديكم فأخبرونا حتى نسير إليكم رجالا» أنهى الأمور فعليا بتنازلها عن العرش.
***
ظلت الخلافة الإسلامية شاغرة لمدة ثلاث سنوات إلى أن بايع المماليك بعد إنهائهم لحكم الأيوبيين وإجبار شجر الدر على التنازل عن العرش الخليفة المستنصر بالله الثانى فى عام ١٢٦١م لتبدأ فترة الخلافة الاسمية حيث كان يجلس الخليفة فى قصره فى القاهرة رمزا لوحدة المسلمين دون ممارسة أى سلطات تذكر بينما أصبح الحكم الفعلى للمماليك وحتى زوال دولتهم على يد العثمانيين فى القرن السادس عشر.
قبل ذلك بقليل كان اتحاد قوى قد نشأ بين سيف الدين قطز أمير مصر والأمير بيبرس فى الشام تمكنوا فيه من توحيد جيش المسلمين الذى هزم المغول الذين حاولوا إسقاط المماليك فى الشام ومصر بتحالفات عدة مع الصليبيين والمسيحيين، فانتصر المسلمون فى عين جالوت (١٢٦٠م)، قبل أن تنشأ الخلافات بين بيبرس وقطز فيقوم الأول باغتيال الثانى ليتولى بيبرس حكم مصر والشام ويعيد إحياء الخلافة العباسية اسميا كما شرحت سابقا.
هنا لابد من الوقوف فى هذه المرحلة من تاريخ الدولة الإسلامية للرد على اتهامين صريحين لطالما وجها إلى الدول الإسلامية وبالتبعية إلى الإسلام بواسطة بعض الكتابات المتعصبة، الاتهام الأول أن تاريخ الإسلام هو تاريخ بربرى من القتل والسلب والنهب، والحقيقة أن هذا ليس تاريخ الإسلام ولكنه تاريخ الإنسانية فى ذلك الوقت حيث لم تمنع حضارات تلك الفترة من فكرة الاحتلال والإخضاع والأسر وتجارة الرقيق.. إلخ فكما فعل الخلفاء المسلمون كل هذه الموبقات، فقد فعلها ملوك أوروبا وقادة الحملات الصليبية دون استثناء. فقراءة التاريخ بشكل محايد تحفل بفظائع القتل والتعذيب فضلا قطعا عن الاحتلال بواسطة الحملات الصليبية، ومن يريد قراءة التاريخ بشكل انتقائى فهذا شأنه، أما أن يفرضه باعتباره حقيقة تاريخية إما كرها فى الدين أو كفوبيا من المسلمين أو حتى كنوع من أنواع التمترس والتعصب فلابد من الرد عليه!
كذلك فإن الاتهام الثانى الذى لطالما طال المسلمين هو أنهم ميزوا ضد المسيحيين وغير المسلمين عموما فى موضوع الجزية أو التعيين فى المناصب العامة، وهنا يقول التاريخ بوضوح نقطتين: الأولى أن الجزية بمعنى دفع ضريبة إضافية من قبل مجموعة من الناس مقابل حماية أو امتيازات بعينها هى سلوك تاريخى ارتبط بتلك الفترة وخصوصا فى ظل غياب معنى المواطنة بمفهومه الحالى ولم تقتصر الممارسة على المسلمين فقط. أما النقطة الثانية فإنه وفى كثير من الأحيان كانت الجزية المفروضة من المسلمين أقل بكثير من الضرائب التى فرضها البيزنطيون على المسيحيين واليهود فى المناطق العربية التى احتلوها، وهو الأمر الذى فعله المسلمون الأوائل فى مصر أو السلاجقة فى الأناضول. كذلك فخلال العصر العباسى كما هو الحال بالنسبة للدولة السلجوقية فقد وصل المسيحيون واليهود إلى أعلى المناصب الإدارية والاقتصادية كما أن بعضهم خدم فى الجيش النظامى إلى جانب المسلمين وحاربوا معهم وهم يضعون الصليب على جبهاتهم كما أشرنا فى مقالات سابقة!
وعلى أية حال فهذه الممارسات أصبحت فى ذمة التاريخ وهى لم ترتبط بالمسيحية أو الإسلام كأديان ولكنها ارتبطت بالممارسات البشرية لتحقيق أهداف سياسية لابد وأن تفهم فى سياقها التاريخى.
***
فى نهاية ستينيات وسبعينيات القرن الثالث عشر سيطر السلطان بيبرس على عرش مصر والشام ثم سعى أيضا لضم إقليم الحجاز لأسباب دينية واقتصادية. فدينيا، كان من المهم أن يسيطر بيبرس على الإقليم الذى يضم المقدسات الإسلامية فى مكة والمدينة واقتصاديا فبفعل الصراعات داخل الدولة المغولية، فقد أضحت موانئ البحر الأحمر أحد أهم الطرق الملاحية وأصبحت موانيها منتعشة اقتصاديا بفعل ذلك. أصبحت كسوة الكعبة ترسل بشكل منتظم من مصر إلى مكة كذلك فقد تم عمل إصلاحات واسعة فى الحرم النبوى بتوجيهات من بيبرس. وفى عام ١٢٦٩م قام الخليفة الرمزى للمسلمين بتمكين بيبرس من أملاك المسلمين فى الحجاز واليمن وما قد يتمكن من غزوه لاحقا!
واصل بيبرس فتوحاته، فشن الغارات على أنطاكية وقبرص والأناضول لهزيمة المغول واسترجاع بلاد المسلمين منهم وفى سبيل ذلك فقد عقد اتفاقات تحالف دبلوماسية مع بعض السلاجقة الذين انقسموا بدورهم بين مناصرة المغول أو مناصرة المماليك، كما أنه تحالف مع بعض الأمراء البيزنطيين، وتمكن من تحقيق انتصارات معتبرة على المغول فى تلك المناطق إلى أن توفى بيبرس فى عام ١٢٧٧م.
حاول بيبرس قبل وفاته اتباع تقليد الخلافات الإسلامية فى توريث الحكم، فبايع ابنه بركة السعيد للدولة من بعده ولكن عارض هذا التوريث المماليك لأنه ليس فى تقليدهم السياسى، ورغم موافقة الخليفة العباسى إلا أن المماليك واصلوا المعارضة لبركة السعيد حتى اضطر الأخير أن يتنازل عن العرش لأخيه ابن السبع سنوات الذى أصبح يعمل كسلطان تحت وصاية من الأمير قلاوون الذى كان من أقوى أمراء المماليك فى هذا العصر.
أستاذ مساعد العلاقات الدولية بجامعة دنفر