دبى من عين أخرى
سيد محمود
آخر تحديث:
الثلاثاء 3 أغسطس 2021 - 9:10 م
بتوقيت القاهرة
كنت أعتقد أن الإنترنت أنهى الحاجة لكتب الرحلات، التى كانت تقوم على وصف الرحلة، بعدما صار بإمكان أى مسافر أن يطلع على كل ما يجهل بضغط «زر» كما يقول الشوام.
نجحت الشبكة العنكبوتية كما يقول الشاعر البحرينى الكبير قاسم حداد فى علاج المسافة، ولم يعد هناك مجال أمام كتاب أدب الرحلات سوى تأمل علاقة الذات، بالمحيط المتغير أو المكان الجديد الذى يوجده السفر.
وخلال السنوات الأخيرة نجحت بعض الكتب فى تجاوز فكرة المسافة، والرهان على شىء آخر يقوم على النظر إلى المكان بطريقة شعرية، ولعل الشاعر الراحل أمجد ناصر كان من بين أكثر المبدعين العرب نجاحا فى مقاربة هذا المعنى.
وفى الكتاب البديع «غرفة المسافرين» الذى أصدره عزت القمحاوى العام الماضى يعثر القارئ على الكثير من التأملات التى تشير إلى الرصيد الباقى لأدب الرحلة أى عملية (قنص التأملات) والنظر إلى السفر كعملية غسيل للروح وتهيئة لمسار جديد.
وفى كتابها الجديد الصادر عن الدار المصرية اللبنانية تحت عنوان «هوامش فى المدن والسفر والرحيل» تذهب الكاتبة الإماراتية عائشة سلطان إلى خيار بديل.
وترى فى كتابة الرحلة مناسبة للتحايل على مأزق كتابة السيرة الذاتية، ليبدو الذهاب إلى الخارج فرصة أهم لرؤية الداخل من عين أخرى وكما تقول فى عنوان أحد فصولها «نسافر لنقترب أكثر».
وطوال سنوات تابعت العمود اليومى الذى تكتبه عائشة سلطان فى صحيفة البيان الإماراتية عبر صفحاتها على مواقع التواصل الاجتماعى ولمست فيما أقرا نبضا آخر لروائية مقموعة تكرس نفسها للكتابة عن الشأن الأدبى والتعليق على الكتب، ومن النادر أن تتطرق فيما تكتب إلى شأن آخر.
وكثيرا ما تساءلت: لماذا تحد سلطان من طاقتها الابداعية فى الكتابة لصالح ما كان صلاح عبدالصبور يسميه «نثار الحياة اليومية »؟.
وفى كتابها تكشف عائشة سلطان عن الوجه الذى غيبته طويلا وتستعيد طاقة كامنة لا يمكن النظر اليها الا بوصفها طاقة شعرية متعددة الطبقات.
وظنى أن الراغب فى التصالح مع «دبى» كمدينة يتم اختزالها يوميا كقرين للعولمة والاستهلاك، لابد وأن يقرأ ما كتبته عائشة حولها، فهى لا تنظر إلى ماضى المدينة بغضب أو بفرح، ولا تستعيده كفضاء للمراثى أو اشارة لزمن راكد ترغب فى تثبيته فى إطار.
تريد عائشة ان ينظر لهذا الماضى كمجال لتأمل الحال وتقول إن من خلقوا من رحم المدينة يشعرون بها كما يجب ودون أن تتكلم.
لا ترى (دبى) من الخارج مثلما نراها، ولا تنكر طابعها المعولم أو تنبذه، لأنها فخورة بما تحقق لهذه المدينة التى صارت قبلة الناس فى العالم، غير أنها فى المقابل تستحضر صورتها القديمة، صورة خالية من عين الاستشراق، تمسح عنها غبار الذكرى، فتعود معها مدينة حيوية حية لها نبض لا تعرفه الأجيال الجديدة.
ترى سلطان (دبى) مدينة صبية اعتادت البذخ، لكنها مثل الناس أيضا تتوجع وتتألم وتحلم وتعشق وتنوء بالأعباء.
يفسر الكتاب فى نبرة التقصى التى تكتب بها المؤلفة طبيعة الفضاء التعددى الذى شيدته المدينة عبر تاريخها وتتيح ماضيها لنفهم من أين جاءت أسطورة التسامح وقبول الآخر وكيف حافظت المدينة على رصانتها على طوال الخط.
وتتابع سلطان فيما كتبه سيرتها مع المدينة وتذهب بالقارئ إلى ما يجهله عن المدينة والأحياء الصغيرة التى كونتها وقت أن كانت الأشياء كلها شحيحة لولا البحر والخيال.
تذكر بالفريج أو الحارة الشعبية التى نشأت فيها مع «عيال ناصر» وتنقل عن أمها وجدتها سيرة التاريخ الذى أوشك أن يكون مجهولا، والذى يتقاطع فى مخيلتها مع تواريخ وشخصيات أخرى عرفتها الكاتبة من الأدب ومن الروايات وكلها شخصيات لها مواصفات خارقة تجاوز الواقع وتؤسس لأساطير شعبية بديلة.
تؤمن سلطان أن الافراد كالمجتمعات تماما فطالما بقينا منتبهين لحفظ ذاكرتنا فنحن بخير.
وتنحاز فيما كتبته لهذه الذاكرة الخصبة لتقدم هذا الماضى الذى تريده حيا لأطفال عائلتها الذين يشبهون أطفالنا الذين يحجون إلى المولات وكاتدرائيات الاستهلاك الجديدة دون أن يعرفوا تفاصيل مدينتهم وتتساءل كيف لهؤلاء أن يحبوا مدينتهم دون أن يعرفونها؟!
تكتب عائشة عن المكان الأول بأمل التأسيس لذاكرة بديلة أو ذاكرة موازية دون أن ترتد بالمدينة إلى الوراء لكنها تبحث فى هذا الماضى عن المعانى التى تتبدد.