فى آداب التعامل مع الولايات المتحدة
جميل مطر
آخر تحديث:
الخميس 3 أكتوبر 2013 - 8:00 ص
بتوقيت القاهرة
قرأت تصريحا للوزير نبيل فهمى يصف فيه العلاقات المصرية الأمريكية بأنها علاقات «مضطربة»، كان الوزير موفقا فى سرد أسباب هذا الاضطراب وظروفه، وفى تبرير اختيار هذا الوصف. فبفضل هذه الكلمة استطاع أن يفلت من ضغوط شعبية ندرك جميعا ثقلها. المؤكد، من وجهة نظرى، أنه لو كان قد استسلم لهذه الضغوط كما استسلم مسئولون آخرون وحزبيون وإعلاميون لضغوط مماثلة، لاستخدم صفات أخرى للعلاقة درجت على استخدامها الدبلوماسية المصرية فى مرحلة أو أخرى من مراحل التوتر فى العلاقات، ولا تتوقف عن استخدامها فى المرحلة الراهنة معظم أجهزة الإعلام المصرية. إن الوزير فهمى باختيار كلمة «مضطربة» يستهل مهمته، وربما عهد حكومة بأسرها، برسالة واضحة هى أن خلافات مصر مع الدول الأجنبية يجب أن تكون دائما محصنة ضد «الفلتان» الديماجوجى، وضد تجاوزات بعض المسئولين فى مؤسسات أخرى الذين يتصورون أن من حقهم ليس فقط الإدلاء برأيهم فى علاقة مصر بدولة أخرى ولكن أيضا التدخل فعليا فى رسم سياسة مصر الخارجية.
أخشى ما أخشاه، أن يضطر الوزير فهمى، تحت ضغط «ميوعة» التشكيلة الحكومية وتحفز قوى معينة للعودة إلى وضع يستحيل العودة إليه وتحت ضغط قوى أخرى تريد تجاوز المرحلة الانتقالية والقفز نحو المجهول، أخشى أن يجد نفسه مضطرا للقبول بتدخلات فى صميم وتفاصيل عمله من جانب زملاء له فى الحكومة أو فى أجهزة أخرى، لأنه إن فعل، وأظن أنه لن يفعل، يكون قد عاد بالدبلوماسية المصرية إلى عهد مبارك أو ما هو أسوأ حين كانت أيدى كثيرة تلعب وتشاغب وتمرح فى حقل السياسة الخارجية المصرية، وكانت النهاية كما عرفناها مأساوية.
●●●
أتوقف هنا لأعود إلى الأسباب التى جعلتنى أتأمل لبعض الوقت فى كلمة مضطربة كوصف للعلاقة المصرية الأمريكية فى وضعها الراهن. كنت أتابع تطور، أو قل تدهور، العلاقات السياسية بين الولايات المتحدة ودول أمريكا اللاتينية، على ضوء الأخطاء العديدة التى ارتكبتها الدبلوماسية الأمريكية، ثم على ضوء ما كشفه إدوارد سنودن عن قيام الحكومة الأمريكية، وأظنه أشار إلى البيت الأبيض تحديدا، بالتجسس على البريد الإلكترونى للسيدة ديلما روسيف رئيسة جمهورية البرازيل وعلى محتويات وثائق شركة بتروبراس، أكبر شركات النفط البرازيلية، والمملوكة غالبا للحكومة، بهدف التعرف على تفاصيل الاكتشافات البترولية الجديدة فى الأمازون والمحيط، وعلى مصادر جديدة للمواد الخام وصفقات النفط التى تزمع الحكومة البرازيلية عقدها مع دول أخرى.
هبت أمريكا اللاتينية غضبا على الولايات المتحدة، ليس فقط تضامنا مع البرازيل ولكن لأن الوثائق المنشورة تثبت أن عمليات تجسس مشابهة جريت ضد بيرو وكولومبيا والمكسيك ودول أخرى. وقد خرج الرئيس السابق لولا دى سيلفا، مطالبا الرئيس أوباما بالاعتذار شخصيا للعالم بأسره، وبعده خرجت السيدة روسيف تطالب باعتذار رسمى للبرازيل ولها، وعندما تأخر الاعتذار، ولم يحاول الرئيس أوباما فى مؤتمر سان بطرسبرج تقديم إشارة أو التلويح بنية الاعتذار، تصورت أنه لم يعد ممكنا لممثلى لحكومة البرازيل وحكومات أخرى فى القارة الاستمرار فى مخاطبة أمريكا بعبارات «مؤدبة». هنا أدركت قيمة المقارنة بين كلمة «مضطربة» وكلمات أخرى قيلت فى مؤتمر اتحاد أمم جنوب أمريكا «يوناسور» الذى انعقد لبحث المشكلة ودعم البرازيل ومساندة قرارها إلغاء زيارة السيدة روسيف الرسمية إلى واشنطن، احتجاجا على ارتكاب الولايات المتحدة جريمة التجسس ضد البرازيل، واحتجاجا فى الوقت نفسه على التلكؤ فى تقديم اعتذار مناسب للعالم أولا، كما طلب الرئيس لولا دى سيلفا، واعتذار خاص للبرازيل رئيسة وحكومة وشعبا.
●●●
لم يكن التجسس القضية الوحيدة المدرجة على قائمة الغضب فى أمريكا اللاتينية. القائمة طويلة تبدأ بتاريخ ممتد من تجاهل واشنطن لقارة بأكملها واستهتارا تاما بحقوقها ورغباتها. ثم حدث فى إبريل الماضى أن رفضت الولايات المتحدة الاعتراف بنتائج الانتخابات التى جرت فى فنزويلا رغم عدم وجود دليل واحد يدفع للشك فى نزاهتها حسب الوثائق، التى قدمتها اللجان الدولية والإقليمية التى راقبت الانتخابات. بدا الموقف الأمريكى من هذه الانتخابات متعسفا وسخيفا وعنيدا وبخاصة بعد تدخل أكثر من دولة فى القارة فى محاولة أخيرة لإقناع واشنطن بحاجة القارة إلى انتهاز فرصة هذه الانتخابات للانتقال بالعلاقة مع الولايات المتحدة إلى آفاق جديدة. وكالعادة فى مثل هذه الحالات نشطت ذاكرة شعوب أمريكا اللاتينية وبخاصة شعب فنزويلا الذى لم يكن لينسى محاولة المخابرات الأمريكية تدبير انقلاب عسكرى فى كاراكاس فى عام 2002، وانتهى بالفشل الذريع وبفضيحة صارخة للاستخبارات الأمريكية، كذلك خرجت من الذاكرة إلى العلن من جديد قصة المؤامرة الأمريكية مع الجنرال البغيض بينوشيه ضد حكومة سلفادور آيندى. وفى الاجتماع أضافت كريستينا كتشينر رئيسة الأرجنتين إلى القائمة موقف صندوق النقد الدولى فى توقيت حاسم من طلب دعم حكومة الأرجنتين فى قضية مالية دولية، وهو الموقف الذى تزعم السيدة كريستينا أن وزارة الخزانة الأمريكية تقف وراءه انتقاما من سياسة الأرجنتين الخارجية التى دأبت على التصدى للتدخل الأمريكى فى شئون القارة.
ثم كانت هناك، وقبل شهور قليلة، فضيحة التعرض لطائرة الرئيس إيفو موراليس خلال رحلة العودة من موسكو إلى باريس فى طريقها إلى لاباز. قيل إنه نما إلى علم الدوائر السياسية والاستخباراتية فى عدد من دول أمريكا اللاتينية أن الدول الأوروبية، التى ارتكبت هذه الفضيحة الدبلوماسية تلقت تعليمات مباشرة من واشنطن عقابا للرئيس البوليفى الذى أبدى استعداد بلاده لاستضافة إدوارد سنودن، صاحب التسريبات فى وثائق الأمن القومى الأمريكى، خلال وجوده فى موسكو، ولموقفه من الضغوط الأمريكية، التى تسعى إلى تحديد مساحات زراعة نبات الكوكا. وعند مناقشة الأمر فى مؤتمر قمة عقد خصيصا لرؤساء مجموعة دول جنوب القارة وصفت رئيسة الأرجنتين الأوروبيين والأمريكيين، الذين أساءوا معاملة الرئيس البوليفى ومرافقيه فى الأجواء الأوروبية وفى مطار فيينا، بأنهم لابد أن يكونوا قد «أصابهم مس من الجنون».
وإن نسى رؤساء أمريكا اللاتينية هفوات عديدة وقعت فيها حكومة الولايات المتحدة، إلا أنهم لا ينسون أن أمريكا تصر على الاستمرار فى التدخل فى شئون القارة رغم إبدائها عدم الاهتمام بها. تدخلت فى عام 2009 فى هندوراس لقلب نظام حكم اتهمه خصومه والمخابرات الأمريكية بأنه يميل إلى اليسار. وتدخلت فى العام الماضى 2012 فى أسونسيون لتدبير انقلاب آخر ضد الرئيس الشرعى للباراجواى.
●●●
مازال أمر السياسة الأمريكية تجاه دول أمريكا اللاتينية يعصى على الفهم. كلنا، وأقصد كل المتابعين للتطور السياسى فى أمريكا اللاتينية، نعرف أن معظم دول القارة شهدت تغيرات جذرية على امتداد العشرين عاما الماضية، البعض منا ذهب إلى حد إطلاق تعبير «الاستقلال الثانى لأمريكا اللاتينية» على هذه الفترة. والبعض، بل أكثر الأكاديميين الأمريكيين كتبوا عن المرحلة باعتبارها السنوات التى أخصبت فكر وممارسات عملية الانتقال إلى الديمقراطية ليس فقط فى أمريكا اللاتينية بل وشرق أوروبا والشرق الأوسط.
ومع ذلك، وللغرابة، تصر النخبة الأمريكية الحاكمة، من الجمهوريين والديمقراطيين على حد سواء، على تجاهل هذا التقدم الذى تحقق فى أمريكا اللاتينية، ربما لأنها لم تواكب هذه التغيرات بتغيرات مناسبة فى منظومة السياسة الخارجية الأمريكية، أو لأنها عازمة على مواصلة السياسة القائمة بحذافيرها دون أى اعتبار للتحولات الديمقراطية والقومية التى أنجزتها دول القارة. استمرت واشنطن تعاقب الدول التى تخرج عن خط الطاعة الكاملة مثلما فعلت مع البرازيل عندما دخلت مع تركيا وإيران فى مشروع للتعاون النووى فحق عليها عقاب واشنطن ودفعت الثمن غاليا، أو لعلها كانت على ثقة «أيديولوجية» بأن البرازيل باعتبارها نموذج التقدم لدول العالم الثالث، مثلها مثل الصين والهند وجنوب أفريقيا، سوف تتأثر حتما بالأزمة الاقتصادية العالمية التى يبدو أن معظمنا أفلت منها بأعجوبة، وحينئذ ستخضع للإرادة الأمريكية وتتوقف عن إثارة المشاعر المناهضة لأمريكا فى القارة وعصيان أوامرها. الدليل الذى يشير إليه باحثون أمريكيون هو المظاهرات الصاخبة التى خرجت فى شوارع ريو دى جانيرو وغيرها من مدن البرازيل احتجاجا على إهمال البنية التحتية والطبقات الفقيرة لصالح إقامة مشاريع عملاقة مثل الملاعب اللازمة للأولمبياد وكأس العالم، يدللون أيضا بتراجع نسب النمو من مستوى 7.5٪ فى مطلع القرن إلى أقل من 1٪ فى عام 2012.
●●●
سألوا السيدة روسيف عن مطالبها ومطالب زميلاتها وزملائها فى دول أمريكا اللاتينية من الولايات المتحدة الأمريكية بعد انكشاف فضيحة التجسس وإصرار واشنطن على التعامل بتعالى مع دول القارة. قالت، من ناحيتنا سوف نتوقف فورا عن تنفيذ التعاقد مع شركة بوينج الأمريكية على صفقة الطائرات بمبلغ أربعة مليارات دولار، «لأن البرازيل لا تستطيع شراء طائرة مخصصة لأهداف إستراتيجية عالية المستوى من دولة لا نثق فيها»، وقالت أيضا سنطلب إخراج الإنترنت من رقابة وإشراف الشركات الأمريكية، وسنصر على أن تتفادى الكابلات الناقلة له المرور بأمريكا، كما نطلب من شركات جوجل وقريناتها العمل مباشرة من أراضينا وليس من أمريكا.
●●●
هكذا تتصرف دول حققت الاستقلال الثانى لشعوبها، وهكذا تجد نفسها مضطرة إلى اتخاذ مواقف بعضها يكاد يصطف على حافة التهور، والإدلاء بتصريحات أقل ما يقال فيها أنها غير مهذبة، لأنها لم تعد تحتمل كثرة الهفوات الأمريكية.
بكلمات أكثر وضوحا، لن تقبل معظم دول أمريكا اللاتينية بعد الآن الاستمرار فى دفع ثمن حالة «الارتباك» الراهنة فى عملية صنع السياسة الخارجية الأمريكية، ولن تسكت عن إهانات جديدة.