عندما سرقوا طبقتنا الوسطى
خولة مطر
آخر تحديث:
الإثنين 3 نوفمبر 2014 - 8:05 ص
بتوقيت القاهرة
فى ليل دون ضوء قمر تسللوا وعلى وقع المغريات الحياتية الشهوانية سرقوا تلك الشريحة منا التى كانت هى صمام الأمان وضمان البقاء.. تلك التى وقفت بعد كل سقوط وبعد خروج آخر محتل لتعيد بناء الاوطان والدول الحقيقية..
هى اسقطوها من الحسابات.. سنين وهم يعملون بجد لتقليصها حتى تلاشت ولم يتبقى منها احد.. هى ذاكرة المكان والزمان وحامية الاوطان فى كل الازمنة.. هى الطبقة الوسطى التى راحوا يمارسون كل انواع الضغط عليها السياسية منها والاقتصادية حتى تنزلق إلى الاسفل أو تتسلق وتتملق وتنضم إلى الشريحة الصغيرة الطافحة فوق سطح المجتمع لا لشىء الا لأنها تمتلك كل شىء فيما المجاميع الواسعة لا تمتلك حتى فتات الموائد وكسرة الخبز.
•••
لسنين وهم يرفعون الصورة ويضعون الاخرى للحاكم القادم بعد انقلاب أو قتل عمد أو تحت أى ذريعة اخرى. بقيت الطبقة الوسطى هى سر أمان عبور المجتمعات إلى شىء من الاستقرار وعدم سقوط الدولة لا النظام أو السلطة فالخلط بين هذا وذاك كثير.. كانت هى الباقية التى تستيقظ فى اليوم الثانى بعد الانقلاب أو التغيير لتعيد نفس الطقوس وتذهب إلى عملها لضمان ان المواطن سيجد رغيفا يأكله وماء يشربه وكهرباء تضىء ظلمة أيامه، واستمرارية تخفف من وطأة التغييرات المتعاقبة تلك التى كلما رفعت صورة من خلف المكتب جاءوا بعد سنين بسيطة بصورة اخرى حتى نسينا الاسماء.. أو هى حتى تلك التى شيدت مملكات النفط ووقفت تبنى لبنة فوق لبنة لتتحول تلك الامارات الصغيرة إلى دول بكل مكونات الدولة الحديثة الصورية!!!
سنين وهم يعملون بجد على إنهائها وتحطيمها وهى تقاوم بعد أن استطاعوا أن ينهوا طبقة اخرى قبلها هى الطبقة العاملة وممثليها.. أنهوا نضالات الطبقة العاملة أو شوهوها من ذاك الواقف فى وسط اعرق الديمقراطيات يتحدى السيدة الحديدية إلى الاتحادات العمالية الصغيرة فى دولنا الحديثة.. كان الانهاء القسرى والقتل لزعامات الطبقات العاملة قد ولى زمنه فجاء زمن شراء الزعامات أو إفسادها لتكون ضمن المنضومة الكاملة لتلك الدول والاوطان.. الكل فاسد ولكل ثمنه!! حتى الزعيم القائد الملهم العمالى المناضل له ثمن إما أن يقبضه أو أن ينتهى فى زنزانة مظلمة وموحشة لا يخفف منها إلا دخول حامل العصى الغليضة ليمارس سادية مرضية.. أو الموت فى ظروف غامضة!!! وتعددت الطرق التى انهوا بها تلك الطبقة ونضالاتها وبقيت امامهم الطبقة الوسطى حجرا فى وجه الموجة الجارفه لاقتصاد لا يعترف الا باقلية تملك كل شىء وغالبية تشقى كل دقيقة من اليوم لتوفير اساسيات الحياة فيما الشريحة الجالسة فى صالونات المقاهى الفاخرة والمستحمة بالعطور الباريسية والغارقة حتى النخاع فى الملذات اليومية ترمى ببقايا الكافيار وما لذ وطاب فى القمامة..
حتى ابناء الطبقة الوسطى الذين كانوا دوما يطمحون إلى الوظائف المنتجة ينبشون فى كتب العلم ويبحثون عن الجديد، هم الآخرون وصلتهم اللوثة فتحولوا إلى مستهلكين يبحثون عن سلم يوصلهم إلى الاعلى عبر وظيفة فى بنك أو مصرف أو مؤسسة دولية أو غيرها، وبعيدا عن المصنع ومراكز الانتاج الحقيقية تلك التى تبنى الدول لا التى تخلق منها اشباها لدول..
•••
تذكرنا روايات وروائع نجيب محفوظ بتلك الطبقة وابنائها بشكل واضح نفسها التى تحولت إلى افلام الابيض والاسود فهى فى معظمها تبنى احداثها حول تلك الطبقة المتوسطة.. الموظف والمهندس والعامل والتاجر الصغير وصاحب المؤسسة والطبيب والممرضة والمعلمة.. كل تلك الوظائف اختفت من ادبياتنا وشاشاتنا واصبحنا محصورين اما فى الثراء الفاحش حتى التخمة ذاك المختبئ تحت عباءة اقتصاد ريعى حتى النخاع يعتمد على السرقات المغلفة بورق السوليفان والاتجار بالارض والعقار وحرق المصانع والمزارع كما قال شيخ الفقراء الشيخ امام «شيد قصورك على المزارع من جدنا وعرق جبينا».
فلا خيار لأبناء الطبقة الوسطى أو المتبقى منها سوى التسلق السريع إلى عالم الخيال والثراء أو السقوط فى متاهات العشوائيات وأبناء الطبقات التى همشت حتى اصبح البقاء على قيد الحياة نضال يومى.
ولم تعد الأمانى كما كانت ان يتعلم الابن أو الابنة ليصبحوا جزءا منتجا من هذا المجتمع بل اصبحت أن نتعلم ما يكفى ليرفعنا تدريجيا لمصاف النخبة الصغيرة.. نجلس بالقرب منها فى الحفلات الصاخبة ونستمع لمحاضرات كبارها فى افراح الخمس نجوم فى فنادق أو مزارع السبع نجوم.. ويكثر الحديث عن كيف تصبح مليونيرا قبل ان تصل الثلاثين وملياديرا قبل الاربعين؟!! ان لم نعد بناء طبقتنا الوسطى فلا مستقبل لهذه الاوطان ولا لاقتصاد عالمى برزت ملامح فشله وسقوطه ولا نزال نتشبث به وكأنه المخلص!!!