الإساءة للنبى.. صدام مع الحضارات!
أكرم السيسى
آخر تحديث:
الثلاثاء 3 نوفمبر 2020 - 8:40 م
بتوقيت القاهرة
يتعرض المترجم لأى نص، من لغة إلى أخرى، إلى عدة مشاكل، أولها المفردات، وثانيها تراكيب الجمل، خاصة إذا كان النص أدبيا حيث يستعمل الأديب الخطاب الضمنى الذى يحتوى على الصور البديعية كالاستعارة والكناية.. وكذلك الصور الذهنية كالسخرية (Irony)، ولكن من أهم المشكلات التى تواجه المترجم، وتؤدى إلى سوء للفهم لدى المترجم وبالتالى لدى المترجم إليه، هو ما يتعلق بحضارة وثقافة اللغتين المنقول عنها والمنقول إليها.
ولعل أبسط مثل توضيحى هو فى حالة التعبير عن الرضا أو السعادة عن شىء، فإن الأوروبى يقول إن هذا الأمر «أدفأ قلبى»، بينما يقول أهل الشرق للتعبير عن نفس المشاعر أن هذا الأمر «أثلج صدرى»، ومن الوهلة الأولى نلاحظ أن التعبيرين متناقضان: فالدفء لدى الأوروبى هو أُمنيته حيث الطبيعة الباردة والثلوج، فهو دائم البحث عن الحرارة المرتفعة والدفء، أما فى الشرق فالعكس تماما، فالشرقى، خاصة فى البيئة الجغرافية العربية، يُعتبر منتهى أمانيه هو الحصول على المكيف البارد الذى يخفف عنه حرارة الصحراء والشمس الحارقة.
يتوقف الأوروبى عن العمل، عندما تظهر الشمس يوما فى بلاده ليستمتع بحرارتها، فيخرج للمتنزهات ليأخذ «حمام شمس»، حتى يحترق جلده، أما الشرقِى فيخرج للمتنزهات، وينقطع عن العمل فى الأيام المُمطرة، ويبحث عن الأماكن التى بها هواء بارد مثل الشواطئ؛ الأول لا يغادر بيته مساءً، والثانى ينطلق ليلا فى البَرّْ!
هذه جزئية بسيطة من الاختلافات الحضارية بين الغرب والشرق تخص فقط الظروف المناخية، ولها بالتأكيد مدلولاتها وتوابعها، وفيما يتعلق بالمفارقات الثقافية فهى كثيرة ومتنوعة، ومن هنا يأتى بما يسمى بالصراع بين الحضارات، وكان أول من طرح مصطلح «صدام الحضارات» The Clash of Civilizations هو صامويل هنتنجتون فى نظريته «صدام الحضارات وإعادة تشكيل النظام العالمى» (1993)، والتى تؤمن بأن الصراعات ــ بعد الحرب الباردة بين الرأسمالية والشيوعية ــ لن تكون بين الدول القومية واختلافاتها السياسية والاقتصادية، بل ستكون الاختلافات الثقافية المحرك الرئيسى للنزاعات بين البشر فى السنين القادمة، ولعل أقوى الصراعات الموجودة على الساحة الآن: الأولى بين الحضارتين الأمريكية والصينية، والثانية بين الغربية والإسلامية، وهى الأشد ضراوة.
***
ويتجلى الصراع الثانى فيما يُطلق عليه الآن فى الغرب بـ«الإسلاموفوبيا» (الخوف من الإسلام)، وآخر مظاهِرِه حادثتان:
الأولى، مقتل ثلاثة أشخاص فى هجوم إرهابى على كنيسة بمدينة نيس (29/10/2020)؛ والثانية، مقتل مدرس التاريخ الفرنسى (16/10/2020) الذى أصرَّ على تدريس طلابه درسا عن حرية التعبير، مستعينا بالرسومات المسيئة للنبى محمد عليه السلام، وسمح لتلاميذه المسلمين بالخروج إذا شعروا بالحرج!، وهذا مُعارض لمبدأ «علمانية التعليم» الذى أوضحه الرئيس الفرنسى فى خطابه، يوم تأبين المدرس، ويؤكد فيه على الاندماج، والوحدة، وعدم الانفصال، ونبذ الكراهية أو التمييز بين الطوائف المختلفة فى المدرسة!
وقبل مناقشة هذا الموضوع الشائك، لابد من التأكيد على أن «القتل» أيّا كانت أسبابه ودوافعه هو مُدان بكل المقاييس، وما سنطرحه ليس فيه أى دفاع من قريب أو من بعيد عن القتلة أو القتل، ولكننا سنناقش ضيق الأفق وعدم الموضوعية فى معالجة مثل هذه الحوادث الإرهابية، وازدواجية المعايير فى الطرح والتحليل.
فالحادثتان الأخيرتان البشعتان: مقتل المدرس، ومقتل ثلاثة أفراد يؤدون الصلاة فى كنيسة نوتردام، لا يمكن أن نُقيِّمهما موضوعيا بعيدا عن أمرين اثنين:
الأول، أن الحادثتين وقعتا بعد أيام قليلة من تصريح الرئيس ماكرون بأن «الإسلام فى أزمة فى كل العالم»، تصريح أسقطه علينا فجأة، وبدون أى سبب واضح فى وقت إلقائه، إلا إذا كان سياسيا! كانت مزايدة منه على الأحزاب اليمينية المتطرفة التى اعتبرت تصريحه دعما لأفكارها، فهذا خطاب يدعو للكراهية والعنصرية، ويتعارض مع مبادئ الجمهورية الفرنسية التى يتمسك بها الرئيس، وهى: الحرية والمساواة والإخاء! ففى الحقيقة هذه نظرة أُحيادية فى التفكير(bornage)، لأن العالم كله فى أزمة، وليس الإسلام فقط، ولعل فيروس كورونا كشف كل عورات وأزمات العالم! (راجع مقالنا انقلابات كورونا فى اللغة والسياسة والاقتصاد)!
والأمر الثانى، حادثتان: الأولى، مقتل مروة الشربينى ــ صيدلانية مصرية ــ طعنها مواطن ألمانى بثمانى عشرة طعنة بسكين فى بطنها وصدرها وظهرها حتى فارقت الحياة، فى عام 2009 فى مدينة دريسدن الألمانية، وذلك بسبب ارتدائها الحجاب، كما طعن زوجها عدة طعنات، وكان ذلك فى مقر المحكمة، أى بيت العدالة! والثانية، الهجومان الإرهابيان بمدينة كرايستشرش فى نيوزلندا، وقعا فى 2019، حيث أُطلقت النيران داخل مسجدى النور ومركز لينود الإسلامى، ونتج عنهُما مَقتل إحدى وخمسين شخصا، وخمسين مصابا، وكان دافعهما سيادة البيض وكراهية الإسلام!
إن هذا لدليل قاطع على أن الإرهاب ليس له دين ولا موطن، وإنما هى ظاهرة عالمية لها أسباب سياسية بحتة.
فأزمة الإسلام التى أشار إليها الرئيس ماكرون ليست بسبب الدين الإسلامى، ولا بسبب المسلمين المعتقدين به، ولكنها بسبب خلط الدين بالسياسة الذى زرعه الغرب فى أوطان العالم الإسلامى (Islamisme)، بعد أن تخلصوا من هذا الخلط فى بلادهم لعلمهم بأنه أم الكوارث، وبأنه يتناقض كلية مع النظام الديمقراطى؛ فإنجلترا زرعت تنظيم الإخوان المسلمين فى مصر فى 1928، ومن وقتها يُعانى المصريون من الإرهاب وحتى يومنا هذا، ومازالت إنجلترا هى الحضن الدافئ لكل الجماعات المتطرفة؛ وفرنسا آوَت الخمينى، ومنحته لجوءا سياسيا ليقود ثورته من على أراضيها، فكانت إيران أول دولة تُعطى الولاية للفقيه فى المنطقة؛ وأمريكا تخلت عن حليفها شاه إيران، وتركته بلا مأوى، وزرعت بن لادن الذى أسس تنظيم القاعدة فى أفغانستان لمحاربة النفوذ السوفيتى، ثم قتلته، ومن بعد زرعت تنظيم داعش فى العراق، وهكذا انتشر الإرهاب فى العالم كله، بعيدا عن الإسلام وعن عموم المسلمين جميعا!
وأما عن حرية التعبير التى يتشدق الغرب ويدعى تمسكه بها، فهى دعوة غير صادقة لازدواجيته للمعايير التى نراها من منظورين: الأول، أن قانون «العداء للسامية» لا يسمح لأحد التشكيك فى محرقة اليهود، ففى عام 1998م أدانت محكمة فرنسية الفيلسوف الفرنسى روجيه جارودى بتهمة التشكيك فى «المحرقة»، فى كتابه «الأساطير المؤسسة لدولة إسرائيل»، وصدر ضده حكم بالسجن لمدة سنة!
وفى ازدواجية ثانية، أن الغرب لا يحترم الآخر، كما يدعى، فهو يخلط بين الحرية والإباحية، وبين حرية التعبير والاعتداء على مقدسات إخوانهم فى البشرية، فلكل أمة مقدساتها التى يجب على الآخر احترامها، ففى الهند لديهم معتقدات خاصة بها لابد من احترامها، فمنهم من يعبدون النار ويقدسون الأبقار، ولو ذهب أحد للهند أو أطلع على حضارتها لعرف أن أحدا لا يستطيع أن يعترض مسيرة بقرة فى الشارع، حتى لو أعاقت حركة الطريق! فما بالهم لو اعتدى شخص أو صحيفة على الأنبياء والرسل، فالديانة الإسلامية تُقدس ــ بدون أدنى استثناء ــ كل الأنبياء والرسل، ولا تقبل أى اعتداء على أى أحد منهم، فهى لا تقبل إهانة النبى موسى، ولا يسوع المسيح عليهما السلام، ولا أمه مريم أطهر نساء العالمين.
***
إذن فى الشرق نظرة مختلفة تجاه الأديان، تختلف تماما عن نظرة الغرب التى تأثرت بثقافة الإسرائيليات التى لا تُلقى اهتماما لقدسية الأنبياء، وتسمح بعرض صور مهينة لهم، وأفلام تُسىء للمسيح عليه السلام، فالغربيون لا يعلمون أن أحدا لا يجرؤ أن يعرض مثل هذه الصور أو الأفلام فى بلاد الشرق، احتراما وتقديسا لكل الأنبياء والرسل، بل وللشخصيات الكبيرة التى أحاطت بهم!
فهذا الخطاب الملىء بالكراهية وبالعنصرية الذى يتبناه المتطرفون الغربيون، ويتميز بالجهل، وضيق الأفق، وأحادية التفكير، فضلا عن ازدواجية المعايير، سيؤدى حتما لصدام مع الحضارات، وذلك بسبب جهلهم لقيم الشرق، وأيضا لجهلهم بأفكار أدبائهم الكبار، وبمفكريهم العظماء ــ منذ عصر التنوير فى القرن الثامن عشر ــ الذين علَّموا البشرية الحديثة «الحرية والمساواة والإخاء»، وكذلك احترام الآخر، فهم من المؤكد لم يقرئوا مسرحية زائيرZaïre) (1732 لفيلسوف التنوير فولتير التى وصف فيها الأمير المسلم، على لسان بطلة المسرحية ــ زائير المسيحية ــ التى تربت فى بيت الأمير، بقولها لوصيفتها التى كانت تحاول منعها من الزواج بالأمير:
«كريم وخير وعادل وملىء بالفضائل..
ولو كان مسيحيا ماذا سيكون أفضل من ذلك« (البيتان 1085ــ1086).
كما أنهم لم يقرأوا قصيدة فيكتور هوجو ــ أعظم أدباء فرنسا على الإطلاق فى القرن التاسع عشرــ الموسومة «العام التاسع للهجرة» (An 9 de l'Hégire)، وفيها يمتدح النبى محمد عليه السلام، ولم يطلعوا على كتاب «حياة محمد» (1854) للأديب والسياسى ألفونس دو لامارتين (أحد مؤسسى الجمهورية الثانية)، والذى كتب فى رسالة لصديقه الكاتب والشاعر ألفريد دوفينى: «إن الإسلام هو المسيحية المطهرة»؛ ولم يطلعوا أيضا على كتاب «الخالدون المائة» (1978) للعالم الفيزيائى اليهودى مايكل هارت، وفيه جاء النبى محمد فى المرتبة الأولى، بينما جاء إسحاق نيوتن فى المرتبة الثانية، ثم يسوع المسيح فى المرتبة الثالثة!
***
وأخيرا، نقول جازمين بأن الحل ليس فى تذكية الصراع بين الحضارات، ولا فى سَن قوانين جديدة لمحاربة الإرهاب، ولكن الحل فى «الحوار بين الحضارات والثقافات المتنوعة، وبين الأديان المختلفة»، فهذا ما يُدعم التوعية حول قيم التسامح، والعيش المشترك، والأخوة فى الإنسانية، وقبول الآخر، ورفض التعصب الدينى والعنصرية والكراهية والأحكام المسبقة، هذه هى قيم الإسلام التى أبرزها القرآن الكريم فى آيات كثيرة، نذكر منها: «وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ« (هود: 118)، وفى قوله: «ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِى هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ» (النحل: 125).
وقد أكد النبى ــ الذى يجهلون قامته ــ على هذه القيم النبيلة فى آخر رسائله، ففى حجة الوداع نادى بقوله: «أيها الناس، إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم، وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربى فضل على أعجمى إلا بالتقوى، ألا هل بلغت؟»، هذه هى دعوات للمساواة بين الناس وللتقارب بينهم، فسلام وصلاة الله على النبى فى شهر مولده، وعلى كل الأنبياء والرسل السابقين له.