وقفة لازمة مع زملاء عرب
جميل مطر
آخر تحديث:
الخميس 3 ديسمبر 2015 - 8:40 ص
بتوقيت القاهرة
لا يخالجنى شك فى أننا نعيش أردأ مراحل التاريخ العربى الحديث. كانت مرحلة الاستعمار العثمانى سيئة وتجاوزناها إلى مرحلة الاستعمار الأوروبى وكانت أيضا سيئة. هذه أيضا تجاوزناها إلى الاستقلال. ورثنا عن الغرب لبعض الوقت فكرة الدولة القومية وألقينا جانبا القيم الطيبة فى حضارة الغرب وسلمنا أنفسنا لرجال مستبدين ومؤسسات تسلطية. كانت مرحلة الهزيمة العسكرية رديئة ولكننا تجاوزناها بأداء جيد أعاد فتح شهيتنا لتحقيق انجازات أخرى، تحقق منها القليل وتباطأنا فى تحقيق الكثير ــ عشنا بعدها نجتر تداعيات الهزيمة حتى نسينا ان نصرا ما تحقق. انتصرت الهزيمة فى النفوس وانهزم النصر فى الأداء.
***
المرحلة الراهنة هى الأردأ، ليس فقط لأن الأداء الجماعى للدول العربية ظل يتردى ويتردى حتى انفض العالم عن الاهتمام بقضايانا وأوضاع شعوبنا وحقها فى العيش الحر والكريم ولكن أيضا لأن هذا العالم صار فى حالا ت كثيرة يتعامل معنا كما يتعامل مع مصادر الأوبئة وفى أحسن الأحوال يتعامل معنا كقُصر أو ناقصى أهلية. نحن أنفسنا وفى داخلنا انفض شملنا وانتفض أكثرنا ضد حكام من بيننا وأوضاع ظالمة ولا مساواة رهيبة. تعمقت مشاعر عدم الثقة بين النخب العربية الحاكمة ونراها الآن تتسرب بفعل فاعلين إلى الشعوب.
***
لم يحدث فى تاريخها أن عوملت جامعة الدول العربية من جانب أعضائها، أو معظمهم، بهذه الدرجة من اللامبالاة والسلبية، وفى أحيان كثيرة بقدر غير قليل من العداء. ألقى البعض مرارا باللوم على إدارتها وقياداتها وهى الإدارة والقيادات التى تختارها الدول الأعضاء وتعينها. حقيقة وللأمانة لم أعرف إدارة تولت مسئولية الجامعة العربية ولم تقترح على الدول خططا للإصلاح والتكامل وتحسين الأداء. وفى كل مرة كانت الدول تسفه هذه الخطط وتوظف مندوبيها للسخرية منها وإحباطها. جرت عادة بعض الإعلاميين والسياسيين العرب على إلقاء اللوم على الدول الأقوى نفوذا فى الجامعة وفى الإقليم، كانت مصر فى وقت من الأوقات صاحبة القسط الأكبر من اللوم، وحين تغيرت مواقع القوة ودرجات النفوذ حلت المملكة السعودية محل مصر فحصلت، بين ما حصلت عليه، على هذا القسط الوفير من اللوم. المؤكد لدى المتخصصين هو أن التغيير المنشود لم يتحقق بل يتسارع تدهور العمل العربى المشترك، ودليلنا هو الفشل الرهيب فى محاولة جديدة لإقامة نظام أمن إقليمى عربى، والفشل الأعظم فى محاولة أخرى جديدة لصياغة سياسة عربية خارجية موحدة. سمعتنا فى العالم سمعة إقليم تتنافر مكوناته وتتحارب، إقليم منشغل بالظلم الاجتماعى وانتهاك الحقوق الانسانية واستيراد آلات الحرب والقتل وتصدير الإرهاب والتشدد الدينى.. والنفط.
***
الأداء الجماعى العربى سيئ، السيئ أيضا وربما أشد سوءا هو أداء الدول العربية من خلال علاقاتها الثنائية. على من نلقى باللوم؟ هل نلوم مؤسسات وطنية ونتهمها بالتقاعس والإهمال، أو نفعل ما تفعله أجهزة الأمن فى معظم الدول العربية فنتهم قادة النخب السياسية والمثقفة بالخيانة والعمالة والانصياع لأهداف مؤامرات دولية. حكوماتنا مطلقة ونفوذها لا يرد، وبالتالى تستطيع لو خلصت النوايا وتوافرت إرادة التقدم والاقتناع بجدوى التكامل وتحقيق السلم الاقليمى والاهتمام بتنشيط العلاقات الثنائية، تستطيع سد بعض الثغرات فى هذه العلاقات.
***
أنا شخصيا وزملاء كثيرون نعتقد أن الفوضى الأخلاقية الناشبة فى قطاع الإعلام فى معظم الدول العربية، يمكن وقفها، أو على الأقل ضبطها وتنظيمها لمصلحة سمعة النخب الحاكمة ومستقبل الشباب الذين اختاروا الإعلام مهنة لهم. ما زلت، رغم السنوات العديدة التى قضيتها فى رحاب هذه المهنة أو قريبا منها، لا أفهم السر وراء هذه الموهبة الخارقة التى تتوافر لبعض الإعلاميين العرب، موهبة النفاق المتنوع والكذب ولىّ الحقائق، ولكن الأدهى فى نظرى، قدرتهم الهائلة على بث الوقيعة أو تعميقها بين الشعوب العربية، وليس فقط بين الحكومات. أعجب لحجم التناقض الذى يعشش فى عقولهم، تراهم اليوم يمدحون هذه الدولة أو تلك وقبل أن ينتهى اليوم يكونوا قد أبدعوا فى إعلان كراهيتهم لها قيادة وحكومة وشعبا. يتوددون حينا وينفرون فى الحين التالى مباشرة، البعض منهم لا يخجل من أن يمد يديه إلى ممثلى دولة ارتزاقا، وبعد أيام يترك قلمه أو لسانه يقطر سما ضدها. آخرون قد لا يمدون الأيادى ولكنهم، وللأسف، قرروا ان يسلموا أنفسهم روحا وجسدا وعقلا لأجهزة تلقنهم ما يكتبون أو يقولون. أعرف حاكما عربيا دافع عن إعلاميين من المرتزقة قائلا ان ما يحصلون عليه من الخارج يتم بإذنه، فإذا لم يأذن لن يأخذوا. بمعنى آخر، هو فى النهاية العاطى المانح وفى الوقت نفسه هو المانع إن أراد.
***
لا أبرئ القيادات الحاكمة فى بلادنا العربية من مسئولية الفوضى الأخلاقية فى الإعلام العربى، وبالتالى لا أعفيهم من مسئولية تدهور العلاقات بين الشعوب العربية. آن لهذه المرحلة الرديئة ان تنتهى. آن للحكام العرب أن يدركوا أن مصائر دولهم وشعوبها فى مهب الريح. آن أن يدرك الجميع ان يعرفوا ان أحداث الخمس سنوات الماضية لم تكن سوى تجربة مهذبة وناعمة إذا قورنت بما يمكن ان تحمله لنا السنوات القليلة القادمة. لا سبيل أمامنا لوقف التردى إلا الاعتراف بسوء الحال وإصلاحه بسرعة وكفاءة، ولا سبيل أمامنا للتمهيد لهذا الانتقال إلا بإصلاح قطاع الإعلام وتطهير لغته وتحسين منظومة أخلاقه وسلوكياته. لا أعرف لماذا لا يحق لى أن أناقش السلوكيات الخارجية، بل والداخلية أيضا، لحكومة فى دولة عربية أخرى بنفس الموضوعية والحرص والشعور القومى الذى أناقش فى إطاره سلوكيات حكومة الدولة التى أنتمى بجنسيتى لها. لماذا لا يحق لى أن أفعل هذا من دون أن يجرى اتهامى بالعمالة أو الخيانة أو التعالى على شعب عربى آخر. كيف أتعالى أنا أو أى إعلامى عربى على شعب نعلم علم اليقين أنه مغيب عن واقع السياسة وغير مشارك فيها وغير مسئول عن تقصير وانحرافات حكومته.
***
أنهى كلامى باستئذان الأستاذ داود الشريان لاقتباس السطور التالية من مقال نشرته له الزميلة « الحياة»: «هل ننتظر ونرى ما لا يسرنا، أم نتحرك كشعوب وحكومات ونفتح حوارا رشيدا، ونعاود النظر فى رؤيتنا وأساليب تعاملنا مع قضية الإرهاب ونسن قوانين تجرم الطائفية والمذهبية، وتلجم أساليب التحريض والشماتة وتمجيد التطرف والعنف والبطولات المتوحشة والوهمية، ونحمى دولنا من التعدى على مواطنيها والحس بسيادتها..».
لم أجد ما يمكن أن اختلف عليه مع الزميل السعودى، ولم أجد ما يمكن أن أضيفه.