طوفان الأقصى.. ومأزق معاهدات السلام بين العرب وإسرائيل
مصطفى كامل السيد
آخر تحديث:
الأحد 3 ديسمبر 2023 - 6:40 م
بتوقيت القاهرة
الحرب التى تدور رحاها فى الوقت الحاضر بين آلة الحرب الإسرائيلية وسكان غزة تضع العرب جميعا أمام مأزق شائك. فهؤلاء الذين تطلعوا للتطبيع الكامل لعلاقاتهم الاقتصادية والسياسية والأمنية والثقافية مع إسرائيل أو ساروا على هذا الطريق يجدون أنفسهم محرجين، فقد روجوا لهذا المسعى باعتبار أنه سيحقق للشعب الفلسطينى بعض تطلعاته، وأنه بحسب ما كانت تقوله صحف هذه الدول، لم يحقق شيئا بالنضال المسلح، فلعل أسلوب إغراء إسرائيل بصفقات اقتصادية يمكن أن يجعل حكومة إسرائيل تخفف من بعض قيودها على حياة الفلسطينيين والفلسطينيات بحيث يحل السلام الاقتصادى محل الحق فى تقرير المصير، والذى يمكن أن تتضاعف فرصه بعد الخطوات الأولى على مسار التطبيع.
هذه أزمة أخلاقية للحكومات التى سارت على طريق التطبيع أو كانت على وشك ولوجه. ولكن المأزق أعمق للدول التى وقعت بالفعل ومنذ زمن معاهدات سلام مع إسرائيل، وهى مصر والأردن والسلطة الفلسطينية. هذه الحكومات لا تواجه فقط الحرج، ولكنها تواجه ما هو أخطر بكثير من الاعتبارات الأخلاقية، وهو أن حرب غزة تهدد الأمن الوطنى لهذه الدول، بما صاحبها ليس فقط بتصريحات من بعض وزراء الحكومة الإسرائيلية بأن طريق إسرائيل للتعامل مع وجود الشعب الفلسطينى فى الأراضى التى تسيطر عليها ويعتبرها المجتمع الدولى أراضى محتلة هو ببساطة طردهم من هذه الأراضى وتهجيرهم إلى دول مجاورة، وتحديدا إلى كل من سيناء فى مصر وشرق الأردن، ويعنى ذلك بالنسبة للسلطة الفلسطينية أن تزاول ــ إن قدرت على ذلك ــ اختصاصاتها على هؤلاء الفلسطينيين خارج فلسطين، فى تلك الأراضى التى هاجر إليها الشعب الفلسطينى من غزة ومن الضفة الغربية.
قللت الحكومة الإسرائيلية من أهمية هذه التصريحات، ولكن ما تقوم به آلة الحرب الإسرائيلية فى غزة يفضى إلى هذه النتيجة، فبعد محاولة إخلاء شمال غزة من سكانها بدفعهم إلى الوسط والجنوب، ها هى تباشر هجماتها الوحشية ــ برا وبحرا وجوا ــ على نفس هذه المناطق التى دعت الفلسطينيين والفلسطينيات إلى الذهاب إليها، ووصلت نيرانها إلى خان يونس ورفح الفلسطينية على بعد أمتار من الحدود المصرية، ويتولى الجيش الإسرائيلى مع جحافل المستوطنين مهمة ترويع أقرانهم فى الضفة الغربية بعد أن قيدت الحكومة الإسرائيلية حركتهم بالطرق الالتفافية حول مدنهم وقراهم، وبالترجمة الجغرافية لواقع الفصل العنصرى بين العرب والمستوطنين الإسرائيليين.
الآن، كيف تتعامل هذه الحكومات الثلاث مع معاهدات السلام التى وقعتها مع إسرائيل، وهى تجد الحكومة الإسرائيلية، وبالتجاهل الكامل لروح بل ونص هذه المعاهدات، تهدد الأمن الوطنى للشعب المصرى والأردنى والفلسطينى على حد سواء، وإن كان بصور مختلفة؟ لم تتخل أى من هذه الحكومات عن إيمانها العميق بأنه من الممكن لعلاقات السلام أن تسود بين العرب وإسرائيل، بل إن حكومة إسرائيل تقول إنها تتطلع أيضا للسلام، ومع كل الدول العربية، باستثناء من لم يقبلوا حتى الآن بوجود إسرائيل، ومن يتطلعون للقضاء عليها، وتقصد بذلك حماس وإيران وأنصارها فى العالم العربى. فلماذا تاه السلام المأمول؟ وما الذى يمكن للحكومات العربية أن تطرحه بعد خطتها الشهيرة والتى لا تبدى الحكومة الإسرائيلية الحالية اهتماما كبيرا بها، بل ولم تعلن أنها تقبلها كما جرى طرحها؟
مدلولات السلام بين العرب وإسرائيل
مفهوم السلام يستخدمه القادة العرب ويستخدمه القادة الإسرائيليون.
العرب يتحدثون عن السلام القائم على العدل، أو مبادلة الأرض بالسلام، والإسرائيليون يتحدثون عن السلام مقابل السلام، وتوقفوا حتى عن الحديث عن الأمن الاقتصادى، لأنه يعنى بقاء الشعب الفلسطينى على قسم من أراضى فلسطين التاريخية، وهم يريدون فلسطين كلها، على النحو الذى تفاخر به بنيامين نتنياهو فى الأمم المتحدة عندما عرض خريطة إسرائيل والتى تشمل الضفة الغربية وغزة ومرتفعات الجولان. فكيف يفهم العرب السلام وكيف تفهمه إسرائيل؟
على الرغم من كل ما وصف به الوجود الصهيونى فى الأدبيات السياسية العربية وخصوصا القومى والإسلامى منها، إلا أن القادة العرب الذين دعوا إلى السلام مع إسرائيل امتلكتهم رؤية متفائلة بالنسبة لطبيعة الكيان الصهيونى. لم يكن لدى جمال عبدالناصر الذى حارب قيام دولة إسرائيل فى سنة ١٩٤٨ شك فى النوايا التوسعية للمشروع الصهيونى، ولكن الرئيس السادات الذى خلفه، والذى لم يشارك فى حرب فلسطين، لم تكن لديه نفس الرؤية. الصراع العربى الإسرائيلى فى نظره جوهره رؤى غير صحيحة لكل طرف عن الطرف الآخر، وبالأحرى هو نوع من سوء التفاهم الذى يمكن حله عن طريق اللقاء المباشر، وكانت رحلته الشهيرة للقدس منذ ستة وأربعين عاما هى خطوة كبرى للتغلب على هذا العائق النفسى. وإذا كان الرئيس السادات هو الذى انفرد بهذه الرؤية فإن القادة العرب الآخرين من الملك حسين، ملك الأردن، وياسر عرفات، زعيم منظمة التحرير الفلسطينية والقائد التاريخى لفتح، وصولا إلى الملك عبدالله، ملك السعودية والذى اقترح خطة فاس وهو ولى عهد للسعودية فى سنة ١٩٨٢ قبل أن تصبح خطة السلام العربية فى ٢٠٠٢، لم يكن لديهم شك فى أن إسرائيل عندما تقبل الجلاء عن الأراضى العربية فى الضفة الغربية وغزة ومرتفعات الجولان يمكن أن تندمج فى إطار علاقات عادية مع كل الدول العربية داخل حدود عام ١٩٦٧.
وبعد أن أقامت كل من مصر والأردن علاقات دبلوماسية مع إسرائيل بعد توقيعهما معاهدتى سلام فى ١٩٧٩، ١٩٩٤ على التوالى، تعزز هذا الشعور، فلم تعترض هذه العلاقات مشاكل كبرى على الصعيد الثنائى. اختلف هذا الوضع فى تجربة العلاقات الفلسطينية الإسرائيلية. فلم تف الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة بالتزاماتها تجاه السلطة الفلسطينية، فلم تجل عن كل الأراضى المخصصة فى اتفاقات أوسلو للسلطة الفلسطينية، وأشرفت على توسع المستوطنات فى الضفة الغربية وواصلت تهويد القدس وأصرت على بقاء القدس الشرقية جزءا من عاصمتها الموحدة، كما فرضت حصارا بحريا وجويا وبريا على قطاع غزة. ومع ذلك، لم يثن هذا كله الكثيرين من القادة العرب، والذين انضموا فى الإمارات والبحرين والمغرب والسودان إلى قطار التطبيع وأوشكت أن تلحق بهم المملكة العربية السعودية، عن قناعتهم بمشاركة إسرائيل الرغبة فى السلام، وكانوا كلهم موقنين بأن إسرائيل سترحب بالعيش فى محيط عربى شأنها فى ذلك شأن العشرات من الدول التى تدخل فى علاقات عادية مع الدول العربية، بل وتأملوا خيرا من المساعدات التى يمكن أن يتلقوها من إسرائيل دبلوماسيا وأمنيا وتكنولوجيا واقتصاديا.
لو كانت كل مشكلة الصراع العربى الإسرائيلى هى ذلك الحاجز النفسى الذى تصوره الرئيس السادات لكانت تجربة مئات الآلاف من السياح الإسرائيليين الذين ذهبوا إلى مصر والأردن والإمارات وعادوا إلى إسرائيل بأمان قد أقنعت القيادات الإسرائيلية بقبول الطرح العربى للسلام بشروطه حول الجلاء من الأراضى العربية المحتلة. ولكن العكس تماما هو الذى جرى، إذ قبلت الحكومات الإسرائيلية بقيادة حزب العمل مبدأ مبادلة الأرض بالسلام، وعلى هذا الأساس أبرمت معاهدات مع مصر والسلطة الفلسطينية والأردن حتى وإن انتهكت اتفاق أوسلو مع السلطة الفلسطينية بالتوسع فى المستوطنات، ولكن تعبير السلام الاقتصادى ــ والذى يعنى الاحتفاظ بالأراضى المحتلة أو السلام مقابل السلام أى بصرف النظر عن أى حديث عن هذه الأراضى ــ هو الذى واكب توسع التطبيع بين إسرائيل والدول العربية. ومع ذلك، لم تتخل الحكومات العربية عن مناشدة الحكومة الإسرائيلية القبول بخطة السلام العربية، وتوسلت من المجتمع الدولى أن يقنع الحكومات الإسرائيلية بمزايا خطة السلام هذه.
تفسير هذا الرفض الإسرائيلى للطرح العربى لا يعود فقط لتصاعد نفوذ الأحزاب المتطرفة على مسرح السياسة فى إسرائيل ومشاركتها فى الحكومة وهى التى تؤمن بأن كل فلسطين هى أرض الله الموعودة للشعب اليهودى، وأن وجود الشعب الفلسطينى فيها هو وجود دخلاء ينبغى التخلص منهم بالترحيل أو ــ الترانسفير ــ إلى الدول العربية المجاورة أو إلى أى مكان آخر فى العالم يقبل باستضافتهم. التفسير الرئيسى لذلك هو علاقات القوة بين إسرائيل وعالم عربى منقسم حول مبدأ التعايش مع إسرائيل وست من دوله تعانى إما من عجز حكوماتها عن السيطرة على كل إقليمها أو من النزاعات الداخلية، بينما تجاهد دول عربية أخرى للخروج من أزمات اقتصادية حادة. وكان بعض هذه الدول يتزعم العداء لإسرائيل. أما الحكومات العربية الأخرى فلم تعد القضية الفلسطينية أو حتى مسألة التضامن العربى شاغلا رئيسيا لها وهى تسعى لتعظيم قدراتها القطرية ومكانتها على الصعيدين الإقليمى والدولى. فما الذى فى هذه الظروف يحول بين الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة واستكمال تنفيذ المشروع الصهيونى بالسيطرة الكاملة على أرض فلسطين، وخصوصا أنها تضمن التأييد المطلق من الولايات المتحدة الأمريكية، الدولة العظمى الأكثر انخراطا فى شئون الشرق الأوسط؟
العقبة الوحيدة هى مقاومة الشعب الفلسطينى فى الضفة وغزة على حد سواء. وهى تتصور أن هذه المقاومة يمكن التغلب عليها باستخدام ما تملكه من قوة، ودونما تقيد لا بقانون دولى، ولا بأى اعتبارات أخلاقية، وبالاستهانة بذوى البصيرة من شعبها وأصدقائها الذين يشيرون عليها باستحالة القضاء على هذه المقاومة.
ماذا تفعل حكومات معاهدات السلام؟
ماذا تفعل حكومات مصر والأردن والسلطة الفلسطينية وآلة الحرب الإسرائيلية تضع الفلسطينيين والفلسطينيات أمام خيارات مرة: إما البقاء فى وطنهم ومواجهة خطر الموت تحت الغارات الإسرائيلية التى لا تعفى أى مساحة فى غزة وتحمُّل إذلال جحافل المستوطنين المدعومين من الجيش الإسرائيلى فى الضفة الغربية، أو إيثار السلامة بالهجرة الطوعية أو القسرية ابتداء إلى الدولتين العربيتين المجاورتين: أى مصر والأردن؟ هل تستمر هذه الحكومات فى التطبيق الحرفى للمعاهدات التى أبرمتها مع إسرائيل، أم أن إخلال إسرائيل بنص وروح هذه المعاهدات يجعلها فى حل على الأقل من الالتزام ببعض نصوصها؟
أقدمت حكومة الأردن على خفض التمثيل الدبلوماسى مع إسرائيل، كما هددت السلطة الفلسطينية بوقف التنسيق الأمنى مع تل أبيب، وتناشد الأطراف الثلاثة المجتمع الدولى التدخل لوقف الاعتداءات الإسرائيلية فى غزة والضفة الغربية. ولكن لا يبدو حتى الآن أن هذا المجتمع الدولى قادر على وقف المجزرة التى تنخرط فيها إسرائيل غير مكترثة حتى بنصيحة الحكومة الأمريكيةــ حليفتها الكبرىــ بأن تكون قاتلا رفيقا. فهل تنتظر هذه الحكومات بداية تدفق الشعب الفلسطينى على حدودها أم أن هناك ما يمكنها فعله قبل ذلك، ومنه وقف تطبيقها لبعض نصوص هذه المعاهدات التى التزمت بها حتى الآن حرفيا؟