مناجاة محمد بنوى
سيد محمود
آخر تحديث:
الثلاثاء 3 ديسمبر 2024 - 6:40 م
بتوقيت القاهرة
دعانى الفنان محمد بنوى المدرس بكلية الفنون الجميلة لزيارة معرضه الجديد (طاقة الحياة) المقام فى فيلا آزاد بالزمالك وقد ذهبت واثقًا من قدرته على ابتكار أعمال فنية مهمة تضيف إلى رصيده الذى مكنه من الحصول على جائزة الدولة التشجيعية وتمثيل مصر فى بينالى فينسيا قبل عدة سنوات.
ومن حظى السعيد أن أتيحت لى فرصة مجاورة الفنان ومحاورته خلال تجربة معايشة نقدية تابعت فيها أعمال فنانى ملتقى الأقصر الدولى للتصوير قبل ثلاثة أعوام وخلال تلك التجربة اكتشفت ما يملكه من طاقة إبداعية متجددة امتدت لتشمل بالعطاء شباب الفنانين الذين أمدهم بما لديه من خبرات تضعه اليوم فى طليعة فنانى الجداريات فى العالم وليس فى مصر فقط.
ويعرف من تابع (كايرو آرت فير) فى الأعوام الأخيرة الأثر الكبير الذى تركته أعماله فى نفوس المشاركين بفضل ما فيها من قدرة على الإبداع المتميز وأهم من ذلك كله استعداده الدائم للتمرد على نجاحاته السابقة رغم أنه أصبح (صاحب وصفة).
فى معرضه الجديد يظهر جليا تفاعله مع مؤثرات وعلامات من الفن المصرى القديم إلى جانب سعيه إلى محاورة هذا الإرث وبناء مفهوم فلسفى يمكنه من الانتقال بأعماله إلى آفاق الفن المعاصر.
لم يبق بنوى أسير الرؤى القديمة التى تقوم على استهلاك الموتيفات أو استنساخها وإعادة صياغتها بمعزل عن سياق إنتاجها أو دلالاتها الرمزية.
وأعطى لمعرضه عنوانا واضحا يمثل مفتاحا لفهم مكونات عالمه الجديد، وهذا العنوان هو (طاقة للحياة) المستمد من مفهوم (الكا) أو (الروح) الموجود فى الديانة المصرية القديمة وهذه الكلمة تعنى الطاقة بالمعنى الذى نعرفه اليوم ونحن نشير إلى حاجتنا لتغيير (المود) فى مواجهة ما يحاصرنا من أزمات.
وقد خاض الفنان تحديا صعبا نتج عن رغبته فى إعادة تمثل القيم الإيمانية الكامنة فى (كتاب الموتى) الذى يعد أشهر النصوص الجنائزية فى مصر القديمة وقد ترجمها شريف الصيفى عن الهيروغليفية باسم (الخروج إلى النهار) وهى ترجع إلى فترة تمتد من عصر الدولة الحديثة وحتى سقوط الأسرة السادسة والعشرين التى حكمت بعد تحرير البلاد من الهكسوس إلى 525 ق.م.
والكثير من تلك النصوص يجرى تأويله كما يتم تأويل النصوص العرفانية ذات الأبعاد الصوفية متعدد الدلالة، كما أن غالبيتها أقرب إلى ابتهالات وتعاويذ مصرية سحرية وصلتنا مصحوبة بالرسوم التوضيحية.
أراد بنوى مواصلة تجارب خاضها من قبل، ففى السابق استعمل النجميات الفرعونية بأحجام مختلفة على خلفية (الهرم الأكبر) لكنه فى المعرض الذى ينتهى فى 7 ديسمبر الجارى يستعمل خامات مختلفة على مسطحات خشبية تم إعدادها مع معالجات من الرمال المؤكسدة توحى بتنوع الطبقات اللونية واختلاف درجاتها.
كما استعمل أسطح خشبية تسمى بالألواح المعلقة بدت أقرب ما تكون إلى أشكال الأطباق الطائرة التى رصعها الفنان بوحدات زخرفية ملونة تعكس وضعيات (المناجاة) سواء حيث تصطف فى صفوف متساوية بشكل أفقى أو عبر تشكيلات أسطوانية أو دائرية أو نصف دائرية.
نرى من منظور عين الطائر كيف امتدت الكثير من الأيادى ناحية مركز ما تتعدد أشكاله؛ فهناك أيادٍ كثيرة توجهت إلى مصدر واحد يبدو فى مكانة الزعيم أو الإمام الذى يخاطب الجموع وفى لوحات أخرى تتوجه لنقطة تمثل مركزًا لدائرة وهو أمر يحيل إلى المفهوم الفلسفى لفكرة (اللوغوس) بمعنى العقل الناظم لحركة الكون التى استعملها جلال الدين الرومى فى رقصة المولوية المعروفة.
يعمل بنوى عادة وفق سبل الترصيع اللونى وأساليب الزخرفة التى نعرفها فى فن الفسيفساء (الموزاييك) لكنه هنا يطور أساليبه ويغيرها، فالتكرار لا يقوم على إعادة إنتاج الوحدة الهندسية ذاتها وإنما يستهدف إثارة وعى المتلقى عبر تأكيد صلته بمرجعيات فنية وثيقة الصلة بأكثر من طبقة حضارية فى تكوين هويته التى لم يعد من السهل القبول بتعريفها المسمط.
طور بنوى عبر اكتشافات لنصوص كتاب الموتى من أساليبه فى العمل دون أن يتخلى عن أناقته وربط تلك التقنيات برمزية الآلهة (ماعت) فى الديانة المصرية القديمة، فالألهة تمثل التوازن والعدالة، ومن ثم كان مبدأ (ماعت) هو أساس مجتمعهم. كما يدل على ذلك الدعاء الذى يدافع به الميت عن نفسه حين يقول: «السلام عليك أيها الإله الأعظم؛ إله الحق. لقد جئتُك يا إلهى خاضعًا لأشهد جلالك، جئتك يا إلهى متحليًا بالحق، متخليًا عن الباطل، فلم أظلم أحدًا ولم أسلك سبيل الضالين، لم أحنث فى يمين ولم تضلنى الشهوة فتمتد عينى لزوجة أحد مِن رحمى ولم تمتد يدى لمال غيرى، لم أقل كذبًا ولم أكن لك عصيًا، لم أنتهك حُرمة الأموات، لم أبع قمحًا بثمنٍ فاحشٍ ولم أطفف الكيل. أنا طاهر، أنا طاهر، أنا طاهر. وما دمتُ بريئًا من الإثم، فاجعلنى يا إلهى مِن الفائزين».
لم يعترف المصرى القديم بالموت كنهاية للحياة، بل نظر إليه كجزء من عملية الصيرورة ورفض أن يكون الموت موتًا، وبنى تصوره عن فكرة البعث انطلاقًا من تأمل بيئته النهرية ومن فهمه لمعنى الغروب فالإلهة نوت ربة السماء تبتلع الشمس لتبدأ رحلتها فى العالم الآخر فى الليل، سعيا لميلاد جديد يأتى من شرق النهر وكذلك تمضى دورة القمر، رأى فيها بنوى مصدرًا لتجديد طاقة الحياة.
تنفى نصوص (الخروج إلى النهار) كما يقول مترجمها المسافات بين دوائر الوجود الثلاث بأنسنة الإلهى وبتأليه الإنسانى، أما العالم فلم تكن له طبيعة واحدة؛ فهو مجال مفتوح مشترك بين الإلهى والإنسانى، وهذا ما يرغب محمد بنوى فى تأكيده عبر معرضه الفاتن الذى يبدو لى كتلاوة تماثل التلاوة التى كان يكررها المصرى القديم وهو يناجى ربه حتى يستطيع أن يصل إلى أبواب الحياة مرة أخرى.