دلالات تراجع الصين عن بعض سياساتها
أحمد عبدربه
آخر تحديث:
السبت 4 فبراير 2023 - 9:41 م
بتوقيت القاهرة
كما شرحت فى مقال الأسبوع الماضى فقد أدت المظاهرات الكثيفة التى شهدتها الصين بشكل مفاجئ ضد الإجراءات الاحترازية فى نهاية العام الماضى إلى تغيير يُعتقد أنه تكتيكى فيما يتعلق بسياسات الرئيس الصينى «شى» والذى كان قد حاول فى المؤتمر العشرين للحزب الشيوعى الصينى الذى عُقد فى أكتوبر الماضى تأكيد سيطرته المطلقة على الحزب وعلى السياسة الصينية من خلال تعديلات سمحت له بالبقاء فى السلطة مدى الحياة، فضلا عن اعتماد سياسة صحية تضع المزيد من الإجراءات الصارمة لمكافحة فيروس كورونا، بالإضافة إلى سياسات اقتصادية جديدة مهدت الطريق للعودة إلى سياسات ماو تسى تونج فى السيطرة على السوق وتوسيع الملكية العامة على حساب الملكيات الشخصية، فضلا عن اتباع سياسة خارجية وأمنية صارمة فى مواجهة أى تهديدات محتملة للأمن القومى الصينى ولا سيما من الولايات المتحدة الأمريكية واليابان.
فى هذا المقال أشرح طبيعة هذه التراجعات والكيفية التى قد تؤثر بها على مستقبل الصين فى العلاقات الدولية.
• • •
جاء التراجع الأول خلال الأسبوع الأول من شهر ديسمبر الماضى، حينما أعلنت السلطات الصينية تخفيف العديد من إجراءات التباعد وغيرها من الإجراءات الاحترازية مثل إلغاء حتمية تقديم نتيجة سلبية لمسحات كوفيد حال وجود معاملات مع المؤسسات العامة، وكذلك السماح لمرضى الفيروس بالتعافى فى البيوت بدلا من المستشفيات، فضلا عن اعتماد سياسة أكثر مرونة فى السفر داخل الصين، وتخفيف الاشتراطات الصحية للسفر خارج البلاد للصينيين والصينيات، أو لدخول البلاد للأجانب!
أما التراجع الثانى فقد تعلق بالسياسة الاقتصادية الصينية. فعلى الرغم من إعلان شى فى أكثر من مرة انتقادات لاذعة للسياسات الاقتصادية لسلفيه «هو جينتاو» و«جيانج زيمين»، وبالرغم من عدة قرارات هدفت صراحة إلى تفكيك سياسات الإصلاح الاقتصادى لزيمين إلا أنه وفى جنازة الأخير فى ديسمبر الماضى فقد أعلن وبشكل مؤثر أفضال الزعيم الأسبق على البلاد، بل والأهم أنه وبخصوص هو جينتاو وبعد أن عانى الأخير من تجاهل الرئيس شى وعدم دعوته إلى العديد من اجتماعات الحزب وخصوصا بعد أن أعلن جينتاو غضبه ومعارضته لاستبعاد العديد من السياسيين التابعين له من اللجان المركزية للحزب، إلا أن شى قد دعاه إلى جنازة زيمين بل وحضر جينتاو كل الاجتماعات التى عقدت بعد الجنازة وكان قد حضرها شى كذلك فيما اعتبر خطوة رمزية من شى لطمأنة القطاع الخاص وإظهار التسامح مع سياسات السوق مجددا!
ثم جاء التراجع الأخير متعلقا باللهجة الدبلوماسية الصينية التى حاولت مع نهاية العام المنصرم تخفيفا من حدة المواجهات مع أوروبا الغربية والترحيب الحذر بالتعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية وخاصة بعد لقاء شى مع بايدن فى نوفمبر الماضى!
وهنا يكون السؤال، ما هى نتائج هذه التراجعات وكيف يمكن أن تؤثر على مستقبل الصين؟
• • •
فيما يتعلق بالسياسات الصحية وتأثيرها على الوضع الاقتصادى، فإن الصين قد عانت من خيبة أمل كبيرة فى عام ٢٠٢٢ حيث لم تتمكن من تحقيق هدفها بالوصول بمعدل النمو الاقتصادى إلى ٥.٥٪ واكتفت بتحقيق ٣٪ وهو المعدل الأقل منذ عام ١٩٩٠! وبناء على تقديرات المؤشرات الاقتصادية، فإن حجم الاقتصاد الصينى قد قل بنسبة تتراوح تقديرها بين ٦٪ و٨٪ بسبب تراجع معدلات الإنتاج والاستهلاك، هذا التراجع يعنى أيضا أن قدرة الصين فى المنافسة فى سوق التجارة العالمية قد تتراجع هذا العام والأعوام القادمة!
فى الخامس من ديسمبر الماضى، أعلنت الإدارة الصينية عدة أهداف هامة بخصوص سياساتها الاقتصادية عام 2023 تمثلت أهمها فى: (١) دعم اقتصاديات السوق ورفع الثقة فى أدائه، (2) رفع معدلات الطلب المحلى، (3) استبعاد أى مخاطر اقتصادية قد تؤثر على سوق السلع والخدمات، (4) العمل على استقرار معدلات النمو والأسعار ومعدلات التشغيل، (5) إصلاح شامل للعملية الاقتصادية.
وقد تم تأكيد الأهداف الخمسة فى التقرير الصادر عن المؤتمر المركزى للعمل الاقتصادى التابع للجنة المركزية فى الحزب الشيوعى الصينى. ويرى الخبراء أن تقرير المؤتمر يبعث بالعديد من رسائل الطمأنة للسوق والقطاع الخاص الصينى حيث اتسم التقرير بلغة أقل حدة من الناحية الأيديولوجية، كما أكد على ثقته فى اقتصاد السوق وعلى استكمال سياسات الإصلاح الاقتصادى والانفتاح والشفافية، كما كان التغير الأهم فى التقرير هو حذفه لأى إشارة لسياسات الرفاهية العامة والتى كانت فى حقيقتها سياسات لإتاحة المجال للقطاع العام للاستئثار بالأنشطة الاقتصادية تحت داعى إعادة التوزيع. يلاحظ أيضا من قراءة التقرير فإنه وبعكس تقرير عام ٢٠٢١ الذى هاجم ما يسمى باقتصاديات المنصة Platform Economy فى إشارة إلى الشركات التكنولوجية المتحكمة فى التجارة الرقمية الصينية حيث حذر التقرير المذكور من خطورة التوسع فى دور التكنولوجيا غير المنضبطة على التجارة الرقمية، فإن تقرير عام ٢٠٢٢ تراجع تماما عن هذا الهجوم!
يرى الخبراء أن هذه المراجعات الاقتصادية قد تحسن قليلا من الأداء الاقتصادى الصينى فى عام ٢٠٢٣، ولكن هذا التحسن يظل مرهونا بأمرين؛ الأول هو استمرار سياسة الشفافية الاقتصادية وعدم التعتيم، أما الأمر الثانى فهو قدرة الصين على السيطرة الفعلية على الوباء واكتساب ثقة الحكومات والمنظمات الدولية!
أما من الناحية السياسية والدبلوماسية، فرغم تغيير اللهجة الواضحة من القيادة الصينية بخصوص أوروبا والولايات المتحدة، فإن الخبراء يرون أن سياسة الصين الساعية إلى مسك العصا من المنتصف ــ فى إشارة إلى محاولة التعاون مع بوتين ودعمه وفى نفس الوقت مد يد التعاون إلى أوروبا الغربية والولايات المتحدة ــ قد تضعف من مصداقية الصين لدى الدول الأوروبية، فضلا عن أن بعض المحللين يرون أن الولايات المتحدة ورغم ترحيبها المعلن بتغيير اللهجة الصينية، إلا أن هناك قناعة لدى صناع القرار فى أمريكا بأن إدارة الزعيم الصينى تقوم بالمناورة من أجل تحسين أوضاعها الاقتصادية وأنها غير صادقة فى تحسين علاقاتها مع الغرب!
فهل نرى بالفعل تغييرات جوهرية اقتصادية وصحية ودبلوماسية صينية فى عام ٢٠٢٣؟ أم ستعاود الصين المراوغة مع الغرب مجددا؟ هذا ما ستجيب عنه الشهور القادمة!
ملحوظة: اعتمد مقال هذا الأسبوع والأسبوع الماضى على المراجع التالية:
1ــ تقرير بعنوان «الاقتصاد السياسى والسياسة الخارجية والأمن القومى الصينى فى ٢٠٢٣» الصادر عن مؤسسة «جمعية آسيا» Asia Society والمنشور فى يناير ٢٠٢٣ على الموقع الرسمى للمؤسسة.
2ــ ندوة إلكترونية بعنوان «ماذا نتوقع من الصين فى ٢٠٢٣؟» منشور على موقع مجلة الشئون الخارجية Foreign Affairs فى ١٥ ديسمبر ٢٠٢٢.
3ــ تقرير بعنوان «العلاقات الأمريكية ــ الصينية» صادر عن مركز الخدمات البحثية التابع للكونجرس الأمريكى فى يناير ٢٠٢٣ للباحثة كارين سوتر.
أستاذ مساعد للعلاقات الدولية ــ جامعة دنفر